بحث

الخميس، 24 أبريل 2014

مؤسسات الفكر والرأي في أمريكا - من أذرع الماسون في إدارة العالم - 4

يقول الحكيم الإغريقي (اليوناني) أفلاطون(1): ((يا عزيزي غلوكون ، لا يمكن زوال تعاسة الدول ، و شقاء النوع الإنساني ، ما لم
يملك الفلاسفة أو يتفلسف الملوك و الحكام ، فلسفة صحيحة تامة. أي ما لم تتحد القوتان السياسية و الفلسفية في شخص واحد ، و ما لم ينسحب من حلقة الحكم الأشخاص الذين يقتصرون على إحدى هاتين القوتين ، فلا تبرز الجمهورية ... إلى حيز الوجود و لا ترى نور الشمس. و الذي حملني على التردد في إبداء الرأي هو شعوري انه يضاد الرأي العام كل المضادة ، لأنه يعسر الاقتناع بأنه وسيلة لحصول الفرد و الدولة على السعادة ..))(2).

إلى جانب البعد الفلسفي الأخلاقي لهذه الحكمة الخالدة (و هو ما لا يعنينا هنا) فإننا يمكن أن نلمس فيها كذلك تأكيدها على الأهمية العظمى لدور المعرفة و العلم و العقلانية في عالم السياسة و في التجارب السياسية الناجحة و المثمرة و المفيدة(3).

إننا نجد عند النظر في السياسات الخارجية لأغلب الدول المتقدمة في عالمنا المعاصر أو في التاريخ الحديث انه و بالرغم من حدوث تطورات و تبدلات في أشخاص صانعي القرار في تلك الدول بفعل مبدأ تداول السلطة السلمي و اليات العملية الديمقراطية الا اننا نلمس مقدارا من الثبات النسبي و الاستمرارية للأفكار و العناصر الأساسية المكونة لتلك السياسات و التي نجدها تتميز في الغالب بقدر كبير من الحكمة و الرصانة و افق الرؤيا الواسع و البعيد و استشراف المستقبل مما يثير تساؤلا" في ذهن الملاحظ البسيط كما الإنسان المتخصص .. ما السر وراء ذلك الثبات النسبي و الحكمة في سياسات تلك الدول المتقدمة و خصوصا" في سياساتها الخارجية بالرغم من كون تلك الدول هي دول ديمقراطية ليبرالية تتغير فيها النخب و الأحزاب و الشخصيات الحاكمة باستمرار؟. 

ما الذي يبقي دولة مثل الولايات المتحدة الأمريكية أو ألمانيا أو فرنسا أو بريطانيا أو اليابان في سياسة ذات ثبات نسبي تجاه قضايا و متغيرات دولية بالرغم من تغير الأكثرية في الكونغرس و المجالس النيابية أو تغير رئيس الدولة و رئيس الوزراء؟. نعم بالتأكيد تكون هناك تغيرات لكن الجميع يتفق أنها لا تكون من النوع الدراماتيكي الحاد الذي يتوقع أن نراه كمتلازمة ترافق تغيير النخب الحاكمة في عوالمنا.

إن السياسة الخارجية للدولة الحديثة المعاصرة قد أصبحت اليوم عملية معقدة و ذات جوانب عديدة متداخلة و أصبحت مسألة بناء سياسة خارجية ناجحة و القرار على خطة إستراتيجية ذكية موضوعا" ليس بالهين و يتخطى القدرة المنفردة المستقلة للعدد المحدود من مؤسسات جمع و تحليل المعلومات في الدولة ذات الطبيعة البيروقراطية و كذلك القدرات و المواهب الفردية و الشخصية لمركز السلطة و اتخاذ القرار. لقد أصبحت هذه القضية عملية مشتركة و جهود منسقة و متراكمة لأكثر من جهة و طرف و تحظى فيها النخب المفكرة المؤطرة فيما اصطلح عليه بمخازن التفكير (Think Tanks) بدور هام و أساسي باعتبار أن هذه النخب تجمع بين ميزتين هامتين هما توافر العلم و الخبرة العملية المتراكمة من جهة و من جهة أخرى توافر الإمكانية و المستلزمات المادية و الوقت لأعمال الفكر و التحليل و التركيب و الاستنتاج لبناء النظرة الاستشرافية التي تعد أساسا" ضروريا" لأي استراتيجية و سياسة خارجية ناجحة.

لقد لعبت و تلعب و ستلعب مؤسسات الفكر و الرأي الـ (Think Tanks) دوراً بارز في صياغة السياسة الخارجية للدول المتقدمة بشكل عام و للولايات المتحدة الأمريكية بشكل خاص. و قد كان لهذه المراكز دورا" أساسيا في كثير من قضايا السياسة الخارجية الأمريكية في عموم الشؤون الدولية بصفة عامة، و تجاه منطقة الشرق الأوسط علي وجه الخصوص. 

لقد قامت هذه المؤسسات ـ التي تَعتبر بمثابة مراكز بحثية مستقلة ـ بصياغة التعاطي الأمريكي مع العالم لفترة تقارب مئة عام، و لكن و لكون مؤسسات الفكر و الرأي تقوم بمعظم وظائفها بمعزل عن أضوء وسائل الإعلام، فهذا يجعلها تحظى باهتمام يقل عن ما تحظى به المؤسسات الأخرى للسياسة الخارجية الأمريكية، مثل التنافس بين جماعات المصالح و المناورات بين الأحزاب السياسية و التنافس بين فروع الحكومة المختلفة. و علي الرغم من هذا الابتعاد النسبي عن الأضواء فإن مؤسسات الفكر و الرأي تبقى حقيقة تؤثر بشكل ديناميكي تفاعلي على صانعي السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية و من خلال عدة جوانب و بوسائل مختلفة.
 
سنحاول في هذه الدراسة البسيطة التعرف على المصطلح و تاريخ نشوئه و تداوله و ماهية طبيعة مؤسساته و كيفية ظهورها في العالم الغربي و الولايات المتحدة بالذات و من ثم التعرف على أدوارها و نشاطاتها يلي ذلك محاولة التعرف على تأثيراتها على صانع القرار في الولايات المتحدة الأمريكية عبر بعض الأمثلة و الحالات المفصلية التي ظهر فيها دور هذه المراكز جليا" في بلورة السياسات الخارجية الأمريكية و من ثم الوصول إلى استنتاجات حول ما يمكن أن تقوم به هذه المراكز من أدوار في المستقبل فيما يخص مجتمعاتنا و سبل ترشيد أدائها من اجل بناء سياسة خارجية أفضل.


(1) أفلاطون (باليونانية: Πλάτωνپْلاَتُونْ) (عاش بين 427 ق.م - 347 ق.م) فيلسوف يوناني قديم, وأحد أعظم الفلاسفة الغربيين، حتى أن الفلسفة الغربية اعتبرت إنها ما هي إلا حواشي لأفلاطون.

(2) أفلاطون ، جمهورية أفلاطون ، ترجمه عنه الانكليزية ، حنا خباز ، دار القلم ، بيروت ، الطبعة الثانية ، 1980 ، ص 172.

(3) في قول مأثور للأمام علي عليه السلام و هو يوصي ابنه بعد جرحه و قبل استشهاده يقول :
يا بني أحفظ عني أربعا وأربعا, قال: و ما هن يا أبت؟ قال : أغنى الغنى العقل , وأكبر الفقر : الحمق , وأوحش الوحشة العجب , وأكرم الكرم : حسن الخلق , قال فالأربع الآخر؟ قال إياك ومصاحبة الأحمق , فإنه يريد أن ينفعك فيضرك , وإياك ومصادقة الكذاب فإنه يقرب عليك البعيد ويبعد عليك القريب , وإياك ومصادقة البخيل فإنه يقعد عنك أحوج ما تكون إليه , وإياك ومصادقة الفاجر فإنه يبيعك بالتافه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق