بحث

الخميس، 24 أبريل 2014

مؤسسات الفكر والرأي في أمريكا - من أذرع الماسون في إدارة العالم - 13

المبحث الثالث : صومعة التفكير الاستراتيجي
:

في هذا العالم الذي يزداد تعقيداً وترابطاً، والغني بالمعلومات، تواجه الحكومات ويواجه صانعو السياسة مشكلة مشتركة تكمن في استخدام معارف الخبراء للتأثير في صنع القرارات الحكومية. يحتاج صانعو السياسة إلى معلومات أساسية عن العالم والمجتمعات التي يحكمونها، وحول كيفية عمل السياسات الحالية والسياسات البديلة الممكنة، وكلفتها، وعواقبها المحتملة.
بالنسبة لصانعي السياسة في العديد من البلدان، ليس غياب المعلومات هو ما يواجه السياسيين والرسميين الحكوميين، بل هو السيل العارم من المعلومات والأوراق. 

الحقيقة أن صانعي السياسة غالباً ما يجدون أنفسهم محاصرين بمعلومات تفوق ما يستطيعون استخدامه: شكاوى الناخبين، والتقارير من الوكالات الدولية أو من منظمات المجتمع المدني، والنصائح من البيروقراطيين، وأوراق تحديد المواقف من جماعات الضغط (اللوبيات) أو مجموعات المصالح، شروحات وعرض مشاكل البرامج الحكومية الجارية في وسائل الاعلام الشعبية وكذلك الوسائل المقتصرة على النخبة من الناس. المشكلة تكمن في أن هذه المعلومات قد تكون غير منتظمة التنسيق وغير موثوقة و/أو تشوبها المصالح الخاصة للذين ينشرونها. وقد تكون بعض المعلومات تقنية لدرجة لا يستطيع معها صانعو السياسة من غير الاختصاصيين فهمها أو استخدامها. 

وقد تكون بعض هذه المعلومات غير عملية سياسياً، أو مالياً، أو إدارياً، أو أنها تتعارض مع مصالح صانعي السياسة الذين يترتب عليهم اتخاذ قرارات تستند إلى معلومات يشعرون أنها أقل من كافية في أحيان كثيرة. وقد تكون معلومات أخرى غير مفيدة لانها تختلف بشكل جذري عن المشهد العالمي أو عن أيديولوجية الذين يتلقونها. وفي البلدان النامية والبلدان التي تمر بطور انتقالي كثيراً ما تغيب المعطيات اللازمة لاتخاذ قرارات صائبة، وتبقى هناك حاجة لجمعها وتحليلها ووضعها في شكل يسمح للبرلمانيين والبيروقراطيين باستخدامها.

في السياسة، لم تعد المعلومات قابلة للتحول إلى سلطة ما لم تأت في شكل صحيح، أو في الوقت المناسب. فالحكومات وصانعو السياسة يتحركون لالتقاط اللحظة المؤاتية لأن القوى الاجتماعية والسياسية المعنية قد أصبحت متناسقة أو متراصفة مع بعضها البعض، أو لأن أزمة طارئة، تجبرهم على القيام بعمل ما. وفي كلا الحالتين، يتحرّكون بسرعة ويتخذون قرارات مستندة إلى ما هو متوفر من معلومات والتي قد لا تقود دائماً إلى سياسة أفضل اطلاعاً. باختصار، يتطلب صانعو السياسة وغيرهم من الذين تهمهم عملية صنع السياسة معلومات آنية، وقابلة للفهم، وموثوقة، وسهلة المنال، ومفيدة.

هناك العديد من المصادر المحتملة لتلك المعلومات، من ضمنها: الوكالات الحكومية، والبحّاثة المرتبطون بالجامعات، ومراكز الأبحاث، والشركات الاستشارية التي تبغي الربح، والمنظمات الدولية. وفي البلدان حول العالم، يتحّول السياسيون والبيروقراطيون أكثر وأكثر صوب مجموعة من المؤسسات المتخصصة لتلبية حاجاتهم.

لقد استجابت منظمات الأبحاث والتحليلات في السياسة العامة، والمعروفة عموماً بـ "مؤسسات الفكر والرأي"، لحاجة صانعي السياسة غير المحدودة إلى المعلومات والتحليلات المنتظمة المتصلة بالسياسة. لقد قادت الحاجة إلى هذه المعلومات إلى إنشاء أولى مؤسسات الفكر والرأي هذه، وهي "المعهد الملكي للشئون الدولية" (1920) و"مؤسسة كارنيغي الخيرية للسلام العالمي" (1910) ، ومعهد "كيل للاقتصاد العالمي" (1914) ، ومؤسسة "بروكنغز" (1916) ، وذلك في الجزء الأول من القرن العشرين، وهي لا تزال حتى اليوم القوة الدافعة الأولى وراء تكاثر منظمات الأبحاث في السياسة العامة.

لقد ساعدت الحركة الدولية للمجتمعات المدنية أيضاً على تحفيز الاهتمام بمؤسسات الفكر والرأي كمصدر بديل للمعلومات حول قضايا ذات اهتمام دولي، وقومي، ومحلي، وبصفتها ناقداً محتملا لسياسات الحكومات القومية والمنظمات الدولية قادراً على التحدث بصوت موضوعي مستقل حول الحكومات ومجتمع الأعمال.

إنها ليست مجرد مخازن للأفكار النظرية فحسب ولا هي (دبابات فكر) إنها المحراب الذي يأخذ فيه رجال الخبرة السياسية والسلطة نوعا" من إجازة العمل ليختلوا بأنفسهم و أفكارهم ويلتقوا مع آخرين سبقوهم في التجربة والمضمار ليعيشوا مع بعضهم البعض في أجواء أكاديمية منهجية فيتمكنوا من صياغة حكمتهم بعد التأمل في تجاربهم وفي سيل مفردات المعلومات التي توضع بين أيديهم.

بعبارة أخرى يمكن أن نقول أن رجل السلطة لكي يصوغ حكمته وتجربته وتحليله الدقيق لمعضلة أو أزمة أو موضوع استراتيجي معين فهو بحاجة لأن يتفرغ لفترة من الزمن في كيان أكاديمي متقيد بشروط بحث علمي أكاديمي دقيق وعميق حتى يتمكن في هذه الأجواء والطقوس من صياغة تجربته العملية بشكل مفيد و محكم ، كذلك فان الباحث العلمي الأكاديمي المتفرغ في هذه المؤسسات هو غالبا من يصنع منتوجاته وهو بتماس كامل بأجواء الأحداث الفعلية و قد يتوظف في الإدارة بشكل معين و لفترة معينة للاستفادة من نمط تفكيره المنهجي العلمي في التصدي للقضايا و المشكلات الآنية و المستقبلية.

لذلك حاولنا في اختيارنا للتسمية والترجمة المناسبة للمصطلح أن نطابق الاسم على المسمى والوظيفة الرئيسية الفعلية لهذه المؤسسات حيث يمكن أن نلاحظ الفكرة المتجسدة خلف العنوان المرفوع لها ، فهذه المؤسسات حين نطلق عليها كلمة مخازن التفكير وليس شيء أخر إنما نفعل ذلك كمحاولة لإبراز  جانب مهم في الدور والوظيفة والطقوس التي تمارس في هذه الكيانات.

لقد كان لمؤسسات مخازن التفكير دور متميز وطريقة منفردة للعمل و لتبادل التأثير مع مؤسسات السلطة والدولة فهي مثلت الأماكن والأجواء الأكاديمية المتخصصة المهيئة ليأتي إليها رجال السلطة والخبرة يلتقون فيها مع آخرين أكاديميين ورجال دولة و سياسة من ذوي الخبرة لينظروا في قضايا واقعية وعملية هامة و حساسة فيكون الناتج في هذه الأجواء ثمرات تغنيهم وتغني مراكز القرار سواء من خلال عودتهم هم أنفسهم محملين بهذه الرؤية التحليلية المعمقة لتجربتهم لتكون زادهم وذخيرتهم في عملهم المقبل أو من خلال خلاصة البحوث والدراسات التي شاركوا في انجازها و قدمت كذخيرة للآخرين ممن هم في دور السلطة و صنع القرار وكذلك للساسة والأحزاب التي هي تسعى للوصول إلى السلطة وتصبح في مركز صناعة القرار.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق