بحث

الخميس، 24 أبريل 2014

مؤسسات الفكر والرأي في أمريكا - من أذرع الماسون في إدارة العالم - 14

الفصل الثالث: تأثيرات مؤسسات مخازن التفكير (Think Tanks) في صياغة السياسة الخارجية الأمريكية
.

لقد قدمت التجربة السياسية الأمريكية العديد من النماذج والشواهد التي تحولت فيها دراسات وبحوث لمؤسسات مخازن التفكير بل وحتى نشاطات بحجم أقل كرسائل و أوراق كتبت في أروقة هذه المؤسسات تحولت لاحقا" إلى منهاج عمل و قرارات بنيت عليها السياسة الخارجية وسنحاول في هذا الفصل استعراض بعضا" من هذه الشواهد التي يمكن من خلالها التعرف على مدى الدور المؤثر الذي تلعبه هذه المراكز و المؤسسات في صياغة القرار السياسي في الشئون الخارجية و الإستراتيجية.

المبحث الأول : حالات و شواهد متنوعة :

ثمة لحظات في تطور سياسة الولايات المتحدة الخارجية كان لمؤسسات مخازن التفكير فيها تأثير حاسم في إعادة صوغ المفاهيم التقليدية، وفي وضع مسار جديد للقضايا الإستراتيجية الأساسية.

فقد قام الرئيس السابق جيمي كارتر بعد انتخابه عام 1976 بتعيين خبراء من مؤسسة بروكنغز ومجلس العلاقات الخارجية في حكومته و بعدها بأربع سنوات استعان رونالد ريغان بمئة و خمسون شخصا" من مؤسستي هيرتيج وهوفر ، ومعهد انتربرايز.

كان الدفاع بواسطة الصواريخ من بين المسائل التي احتلت مكانة عليا في قائمة القضايا التي استحوذت على اهتمام مؤسسة هيرتيج (التراث)، حتى قبل إلقاء الرئيس السابق رونالد ريغان، في آذار/مارس 1983، الخطاب الذي أُنشئ بموجبه برنامج مبادرة الدفاع الاستراتيجي. فدراسة "الحدود العليا" التي رعتها المؤسسة، والتي دعت فيها إلى نشر نظام دفاع فعّال من الصواريخ الباليستية كانت قد صدرت منذ عام 1982. 

ومنذ ذلك الحين، عملت مؤسسة هيريتيج (التراث)، وهي منظمة غير حزبية لأبحاث السياسة العامة مركزها واشنطن، أو بتعبير آخر، "مؤسسة فكر ورأي"، على تثقيف صانعي السياسة بالنسبة للحاجة إلى نشر مثل هذا النظام [1]

ويمثّل النقاش حول توسيع الحلف الأطلسي في بداية التسعينات من القرن الماضي إحدى هذه اللحظات. فقد لعبت مخازن التفكير دوراً أساسياً في تطوير وتعزيز التأييد لقرار الولايات المتحدة توسيع الحلف كجزء من إستراتيجية أشمل لإلغاء تقسيم قارة أوروبا الذي جاء نتيجة للحرب الباردة، وإقامة أوروبا كاملة غير مقسمة، حُرّة، تنعم بالسلام.

كانت تلك فترة دراماتيكية. فانهيار الشيوعية في أوروبا الوسطى والشرقية سنة 1989، وتفكك الاتحاد السوفياتي نفسه بعد ذلك بسنتين، خلّفا وراءهما أيضاً فراغاً بالنسبة للسياسة الغربية في المنطقة. فقد أخذت الثورات الديمقراطية في أوروبا الوسطى والشرقية سنة 1989 الغرب على حين غرّه إلى حد بعيد. 

ومع أن هذه الثورات قد استُقبلت بالترحاب، إلا أنها، رغم هذا، قلبت العديد من الافتراضات الضمنية التي كانت توجّه تفكير وسياسة الغرب.

وكانت الأحداث على الأرض تتحرك بصورة أسرع من قدرة الكثير من صانعي السياسة على إعادة التفكير بالموقف. وكانت الحكومات والبيروقراطيات، في بعض الأحيان، متخلفة عن مسار التاريخ - وكانت تعرف ذلك - إذ أمست، إلى حّدٍ ما، ضحية للنجاح الذي حققناه. فالغرب، الذي نجح في الإطاحة بالشيوعية دون طلقة نار واحدة في مواجهة بين الغرب والشرق، لم يكن جاهزاً لا سياسياً ولا فكرياً لطرح رؤية جديدة حول ماهية أوروبا ما بعد الحرب الباردة أو حول العلاقات الأطلسية اللازمة للمستقبل. وأصبح السؤال المطروح، ماذا سيكون الغرض من حلف شمال الأطلسي في عالم خالٍ من الشيوعية والتهديد السوفياتي؟

وقد أنتج هذا التساؤل أحد أكثر نقاشات السياسة الخارجية انفعالاً وإحداثاً للانقسام في الولايات المتحدة الأمريكية خلال التسعينات من القرن الماضي. 

ولم تكن القضية تدور فقط حول توسيع أو عدم توسيع حلف الأطلسي ليشمل أوروبا الوسطى والشرقية ، بل إن ذلك كان ، من نواحٍ عديدة ، مُجرّد القمة الظاهرة من جبل الجليد العميق. فقد كان صانعو السياسة مختلفين أيضاً حول أي نوع من أوروبا ، وأي علاقات أميركية – أوروبية ، ينبغي على الولايات المتحدة إقامتها لحقبة جديدة. ونتج عن ذلك حصول بعض أهم وأكثر التغييرات تأثيراً في إستراتيجية الولايات المتحدة والحلف منذ عقود. لقد كان هناك عدة أسباب وراء تقدم دور مؤسسات مخازن التفكير في ذلك النقاش و من بين تلك الأسباب :

أولا :كان هناك طلب شديد، في بداية التسعينات من القرن الماضي، على تفكير متجدد وغير تقليدي من جانبي الأطلسي، ولم تكن الحكومات في كثير من الأحيان مجهّزة بما فيه الكفاية لتأمينه. فالتعامل مع التغيرات الثورية ، أو استنباط نماذج فكرية مبتكرة لا يعتبران من القدرات المألوفة لدى المؤسسات البيروقراطية. ولا يرجع السبب في ذلك إلى كون العاملين ضمن النظام الحكومي أقل موهبة لكن طبيعة عملهم تقتضي تأمين إجماع في الرأي، وهم يتجنبون المغامرة والمخاطرة في بعض الأحيان، كما أنهم ببساطة ينؤون تحت عبء القضايا ومتطلبات الأعمال القصيرة الأمد. 

فمن الأسهل بكثير على المرء أن يفكر بطموح أو بابتكار عندما يكون خارج نظام الحكم، أوفي مؤسسة للفكر والرأي، حيث تختلف هيكلية الحوافز المتوفرة له تماما". فملاحظة وزير الخارجية السابق، هنري كيسنجر، بأن على المرء أن يجمع وينمي رأسماله الفكري قبل دخوله الحكومة لأنه سوف يستنزفه عندما يعمل ضمن البيروقراطية تمثل واقع الحال في أحيان كثيرة.

ثانياً : أدت جهود الحكومة الأميركية المبكرة، في بداية التسعينات من القرن الماضي، الرامية إلى معالجة هذه القضايا إلى انقسام جدي بين صفوفها. 

وقد قصد العديد من المسئولين في الحكومة الأميركية آنذاك شخصيات من خارج الحكومة طلباً لمعطيات ودراسات تحليلية إضافية. 

ولم يكن الهدف من ذلك ، في بعض الحالات، إلا تعزيز وجهات نظر أولئك المسؤولين الحكوميين. 

لكنه عكس، في حالات أخرى، الجهود المبذولة للعثور على طرق جديدة لمد الجسور والتوفيق بين الاختلافات القائمة في العمليات المتجاوزة لحدود الدائرة الحكومية الواحدة. وكانت النتيجة النهائية ، أن كبار الرسميين الأميركيين توجهوا، وبتفاعل متزايد ، نحو مؤسسات مخازن التفكير ، وأشركوها في المداولات بين هذه الوكالات الحكومية، التي كانت في العادة مغلقة دونها.
 
ثالثاً : تمكّنت بعض مؤسسات مخازن التفكير من الاستفادة من هذه الفرص لأنها جلبت معها بعض القدرات الفريدة. فقد كان لدى مؤسسة راند ، في بداية التسعينات من القرن الماضي، واحدة من أفضل مجموعات الخبراء المختصين بشؤون الأمن الأوروبي خارج الحكومة الأميركية. 

وكان لديها أيضاً ، بالإضافة إلى علاقات العمل الوثيقة مع مختلف أطراف الحكومة الأميركية ، علاقات ممتازة في أوروبا الغربية والوسطى والشرقية، كما وفي روسيا. وكانت، إلى جانب جامعة الدفاع القومي ومجلس الأطلسي، بين أوائل المؤسسات التي اتخذت لها موطئ قدم في الديمقراطيات الجديدة في أوروبا الوسطى والشرقية. 

والواقع هو أن الحكومة الألمانية، وكذلك حكومات أوروبا الوسطى والشرقية، كانت قد قصدت هذه المؤسسات لكي تؤمن لها المساعدة التحليلية لتطوير سياسات جديدة. 

وقد أتاح ذلك لهذه المؤسسات الفرصة لمعرفة وفهم التفكير السائد في واشنطن وفي شطري أوروبا، وهو أمر لم يكن يتمتع به إلا عدد قليل من الذين لا ينتمون إلى تلك الحكومات.


([1]) للاطلاع على تفاصيل بحوث المؤسسة في هذا الشأن و خصوصا" كتابات الباحث بايكر سبرنغ (Baker Spring) راجع الرابط التالي على شبكة الانترنت :

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق