بحث

الأربعاء، 15 أبريل 2015

إدارة التوحش : دستور ومنهجية الخوارج في تدمير الدول : 5.

المبحث الأول التعريف بإدارة التوحش وبيان السوابق التأريخية لها .

قلنا فيما سبق إن المتأمل في القرون السابقة وحتى منتصف القـرن العشرين يجد أنه عند سقوط

الدول الكبرى أو الإمبراطوريات - سواءً كانت إسلامية أو غير إسلامية - ولم تتمكن دولة مكافئة في القوة أو مقاربة للدولة السابقة من السيطرة على أراضي ومناطق تلك الدولة التي انهارت تتحول بالفطرة البشرية مناطق وقطاعات هذه الدولة للخضوع تحت ما يسمى بإدارات التوحش.. لذلك تعرّف إدارة التوحش باختصار شديد بأنها: إدارة الفوضى المتوحشة..!!

أما التعريف بالتفصيل فهو يختلف تبعاً لأهداف وطبيعة أفراد هذه الإدارة، فلو تخيلناها في صورتها الأولية نجدها تتمثل في: إدارة حاجيات الناس من توفير الطعام والعلاج، وحفظ الأمن والقضاء بين الناس الذين يعيشون في مناطق التوحش وتأمين الحدود من خلال مجموعات الردع لكل من يحاول الاعتداء على مناطق التوحش إضافة إلى إقامة تحصينات دفاعية.

قد ترتقي إدارة احتياجات الناس من طعام وعلاج إلى تحمل مسؤولية تقديم خدمات مثل التعليم ونحو ذلك، وقد يرتقي حفظ الأمن وتأمين الحدود للعمل على توسيع منطقة التوحش.

لماذا أطلقنا عليها [إدارة التوحش] أو [إدارة الفوضى المتوحشة] ولم نطلق عليها [إدارة الفوضى] ؟
ذلك لأنها ليست إدارة لشركة تجارية أو مؤسسة تعاني من الفوضى أو مجموعة من الجيران في حي أو منطقة سكنية أو حتى مجتمعاً مسالماً يعانون من الفوضى ولكنها طبقاً لعالمنا المعاصر ولسوابقها التأريخية المماثلة وفي ظل الثروات والأطماع والقوى المختلفة والطبيعة البشرية وفي ظل الصورة التي نتوقعها في هذا البحث يكون الأمر أعم من الفوضى بل إن منطقة التوحش قبل خضوعها للإدارة ستكون في وضع يشبه وضع أفغانستان قبل سيطرة طالبان.. منطقة تخضع لقانون الغاب بصورته البدائية يتعطش أهلها الأخيار منهم بل وعقلاء الأشرار لمن يدير هذا التوحش، بل ويقبلون أن يدير هذا التوحش أي تنظيم أخياراً كانوا أو أشراراً إلا أن إدارة الأشرار لهذا التوحش من الممكن أن تحول هذه المنطقة إلى مزيد من التوحش..!!

الصورة المثالية لمهمات إدارة التوحش التي نرومها:

بيَّنَّا فيما سبق مهمات إدارة التوحش في صورتها الأولية بشكل عام، إلا أننا قبل أن ننتقل إلى نقطة أخرى نحب أن نوضح مهمات إدارة التوحش في الصورة المثالية التي نرومها، والتي تتفق مع مقاصد الشرع، هذه المهمات هي:

- نشر الأمن الداخلي.

- توفير الطعام والعلاج.

- تأمين منطقة التوحش من غارات الأعداء.

- إقامة القضاء الشرعي بين الناس الذين يعيشون في مناطق التوحش.

- رفع المستوى الإيماني ورفع الكفاءة القتالية أثناء تدريب شباب منطقة التوحش وإنشاء المجتمع
المقاتل بكل فئاته وأفراده عن طريق التوعية بأهمية ذلك.

- العمل على بث العلم الشرعي [الأهم فالمهم] والدنيوي [الأهم فالمهم].

- بث العيون واستكمال بناء إنشاء جهاز الاستخبارات المصغر.

- تأليف قلوب أهل الدنيا بشيء من المال والدنيا بضابط شرعي وقواعد معلنة بين أفراد الإدارة على الأقل.

- ردع المنافقين بالحجة وغيرها وإجبارهم على كبت وكتم نفاقهم وعدم إعلان آرائهم المثبطة ومن ثم مراعاة المطاعين منهم حتى يُكف شرهم.

- الترقي حتى تتحقق إمكانية التوسع والقدرة على الإغارة على الأعداء لردعهم وغنم أموالهم وإبقائهم في توجس دائم وحاجة للموادعة.

- إقامة التحالفات مع من يجوز التحالف معه ممن لم يعط الولاء الكامل للإدارة.

السوابق التأريخية والمعاصرة لإدارة التوحش:

- السنوات الأولى من بعد الهجرة إلى المدينة:

إدارة التوحش قامت في تأريخنا الإسلامي مرات متعددة، وأول مثال لها كان بداية أمر الدولة الإسلامية في المدينة، فباستثناء الإمبراطورية الرومانية والفارسية وبعض الدول أو الدويلات التي كانت على أطراف الجزيرة كان النظام القبلي في الجزيرة يقوم على نظام مشابه لنظام إدارة التوحش، ويمكن اعتبار المرحلة الأولى من العهد المدني - قبل استقرارها وإقامة دولة تأتيها الزكاة والجزية وتقيم وتعتمد الولايات حولها وتعين العمال والولاة - يمكن اعتبار تلك الفترة السابقة لذلك أنها أديرت فيها المدينة بنظام إدارة التوحش، نعم لم تكن المدينة قبل هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم تُعاني من التوحش بل كانت تدار من قبل قبائل كالأوس والخزرج بنظام شبيه بنظام إدارة التوحش ثم عندما هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم للمدينة وأعطت العناصر الرئيسية فيها الولاء له أديرت المدينة في هذه الفترة الأولى بشبيه هذا النظام من قبل المسلمين، بل بالنظام المثالي لإدارة التوحش الذي بينا ملامحه فيما سبق.

- أما على مدار تأريخنا الإسلامي ففي حالات خاصة عديدة، حال الفترات العصيبة عند سقوط خلافة وقيام أخرى أو خلال تعرضنا لهجمات خارجية كالهجمة التتارية والهجمات الصليبية خلال مثل هذه الفترات العصيبة قامت مثل هذه الإدارات وارتقى بعضها بإقامة دويلات صغيرة ثم تجمع لإقامة خلافة أو دولة متجاورة مع دول أخرى أو مع خلافة، وأوضح مثال لذلك كما ذكر الشيخ العلامة عمر محمود أبو عمر - فك الله أسره - هو فترة الحروب الصليبية حيث قال:

( أغلب من تكلم في هذه الفترة الزمنية عالجها من جهة بعض الأشخاص الذين أحدثوا أثراً تجميعياً للجهود المتفرقة السابقة لأعمالهم، فنرى كاتباً يعالجها من جهة القائد نور الدين زنكي أو من جهة القائد صلاح الدين الأيوبي، وهكذا.. فيظن القارئ على غير دراية أن هذا الجزء من التأريخ الإسلامي في معالجة الصليبيين تم عن طريق الدولة الجامعة لأمر المسلمين وهذا خطأ بين، فالقارئ المتمعن لتلك الفترة الزمنية يرى أن المسلمين عالجوا أمر الصليبيين عن طريق تجمعات صغيرة، وتنظيمات متوزعة متفرقة، فهذه قلعة حكمتها عائلة من العائلات، جمعت تحت إمرتها طائفة من الناس، وهذه قرية ارتضوا حكم قائد عالم منهم وجاهدوا معه، وهذا عالم انتظم معه جماعة من تلاميذه وارتضوا إمامته وهكذا، ولعل خير من يشرح لنا هذه الأوضاع على حقيقتها هو كتاب [الاعتبار] للأمير أسامة بن منقذ، وأسامة هذا من قلعة شيزر، وعائلته آل منقذ هم حكام هذه القلعة، ولهم دور مشهود في الحروب الصليبية، وأسامة شاهد عيان لحروب المسلمين ضد الصليبيين.

وقبل أن أنتقل إلى نقطة أخرى، المهم التنبيه على أن دور القادة الكبار أمثال آل زنكي والأيوبيين هو تجميع هذه التكتلات والتنظيمات في تجمع واحد وتنظيم واحد، ومع ذلك فقد بقي هو الدور الأكبر لتلك التكتلات الصغيرة القائمة على الحق في معالجة الحروب الصليبية.. ) أ.هـ.

سبق هذه التكتلات الصغيرة التي سيطرت على بعض القلاع والمدن الصغيرة وتزامن معها القيام بعمليات نكاية وإنهاك ( إن شئت فاقرأ بالتفصيل ما كتب في ثنايا السطور عن الحروب الصليبية تدرك أن الإنهاك الذي كان يقوم به طائفة العلم والجهاد هو الذي حقق النصر في المعارك الكبرى لا المعارك الكبرى ذاتها، بل لم تكن هذه المعارك الكبرى كحطين إلا محصلة لمعارك صغيرة لا تكاد تذكر في التأريخ لكنها كانت الأرقام الأولى لتشكل النصر الكبير النهائي ) .

ومن الأمثلة العجيبة لإدارات التوحش ما نقله الشيخ عبد الله عزام - رحمه الله - عن قيام مائة رجل مسلم بإدارة منطقة جبلية بين ما يعرف بايطاليا وفرنسا الآن وفرض ما يشبه الجزية على ما يجاورها من المناطق واستمر ذلك فترة من الزمن.

كذلك من الحركات التي أقامت إدارات للتوحش بل طورت منـها وجمعت شتات المناطق المدارة بما يشبه دولة لفترة من الزمن [حركة الإمام السيد] التي جددت دعوة التوحيد والجهاد بالمربع السني في منطقة الهند وكشمير وباكستان وأفغانستان وعلى الرغم من قصر عمر هذه الحركة ككيان استمر فقط من بداية القرن التاسع عشر إلى بعد منتصفه بقليل إلا أن تأثيرها ممتد حتى الآن، بل إن ما قامت به من أعمال ضد أعداء الله وعلى رأسهم الإنجليز يعتبر مصدر إلهام لحركات الجهاد في كشمير والهند وأفغانستان، بل لعل امتداد بقاياها كان له أثر قوي في انفصال باكستان عن الهند –بغضِّ النظر عن مدى الانحراف في الحكومة الباكستانية التي قطفت ثمرة الجهاد- في منتصف القرن العشرين، بل إن رجال الجهاد الأفغاني مازالوا يستلهمون العبر من سيرة ذلك الإمام، كيف لا وقد عرف جبال أفغانستان وعرفته؟

هذا بالنسبة للمسلمين أما الكفار فهناك عشرات بل مئات الأمثلة لـ [إدارات توحش] أقامها الكفار في أوروبا وأفريقيا وباقي القارات في العصور السابقة.

أما في العصر الحديث فبعد معاهدة [سايكس بيكو] وارتقائها واستقرار وضعها بنهاية الحرب العالمية الثانية وبروز هيئة الأمم المتحدة وإحكام النظام الجاهلي السيطرة على العالم بأنظمة الجنسية والورق النقدي والحدود المُسيجة بين ما يُسمى دول العالم أصبح من الصعب إقامة مثل هذه الإدارات، إلا أنه بالرغم من ذلك قامت العديد من إدارات التوحش خاصة في الأماكن التي تبتعد عن المركز وتتيح ظروفها الجغرافية والسكانية تسهيل ذلك.

وهناك أمثلة عديدة لتجمعات معاصرة سواءً إسلامية أو يسارية أو غير ذلك منها:

الفصائل المقاتلة في أفغانستان في المراحل الأولى للجهاد والمراحل الأولى لحركة طالبان حتى قيامها بإقامة دولتها - أعادها الله في عز ورفعة - بغض النظر عن مدى قرب هذه الإدارات من الصورة المثالية الواقعية الإسلامية أو بعدها عنها أو حتى مخالفتها لها.

كذلك حركة [أبي سياف] وجبهة [تحرير مورو] بالفلبين، كذلك حركات الجهاد بالجزائر في بعض فترات الجهاد في التسعينات بغض النظر عن انحراف البعض.

كذلك الفصائل الإسلامية وغيرها في الصومال بعد سقوط دولة [سياد بري].

كذلك بعض المراحل الزمنية لبعض المناطق في جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق والشيشان.
تجدر الملاحظة هنا أننا لا نعتبر حركات مثل حماس والجهاد الإسلامي بفلسطين الآن والجماعة الإسلامية بمصر في فترة التسعينات وكذلك الجماعة المقاتلة في ليبيا ومن يشابههم قد أقاموا بعد إدارات توحش وإنما هم كانوا - وبعضهم مازال - في مرحلة ما قبل إدارة التوحش وهي مرحلة يطلق عليها مرحلة [شوكة النكاية والإنهاك] وهي مرحلة تسبق في العادة مرحلة إدارة التوحش في حالة إذا كان في حسابات من يقوم بالنكاية أن التوحش سيحدث ومن ثم الإعداد لإدارته، وإلا فان بعض مجموعات النكاية تقوم بالنكاية دون أن تضع ذلك في حساباتها، وأحياناً تقوم بالنكاية لإضعاف دولة لحساب دولة أخرى أو قوة أخرى ستتسلم حكم الدولة المُنهكة أو أرض التوحش وتقيم مكانها دولتها دون المرور بمرحلة إدارة التوحش.

هذا وسيأتي في المبحث القادم بيان أهداف والتعريف بمرحلة [شوكة النكاية والإنهاك] وهي المرحلة التي نمر بها الآن.

نعود للأمثلة المعاصرة لإدارات التوحش ونركز هنا على الحركات غير الإسلامية ومنها:

- حركة جون جارنج بجنوب السودان المسماة [الجبهة الشعبية لتحرير السودان].

- حركات اليساريين في أمريكا الوسطى والجنوبية، ولعل اليساريين أبدعوا في بعض النواحي العملية في إدارة مناطق التوحش هناك وبعضهم أقام دول.. ولكنهم يديرون هذه المناطق بمبادئهم القذرة التي لا تقبلها المناطق المحيطة عادة مما يجعل مناطقهم غير قابلة للتوسع لرفض السكان الانتقال من الحكومة المركزية والانضمام لإدارة التوحش أو لإقامة دولة على أنقاض الدولة المركزية.. ويكفي أن نعلم أنه بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وانقطاع جانب مما كانت تعتمد عليه هذه الحركات في التمويل أصبحت جل هذه الحركات تعتمد في تمويلها على تحصيل أموال مقابل إيجاد ملاذات آمنة للخارجين عن قوانين البلاد هناك، أو كبار تجار المخدرات بل يقومون بأنفسهم بزراعة المخدرات والاتجار فيها، كذلك نهب السكان المحليين وخطفهم وأخذ فدية مقابل إطلاق سراحهم أو إبقائهم كرهائن ودروع بشرية، ومجتمع التوحش الذي يديرونه وإن كان به قضاء إلا أنه مليء بالانحلال الخلقي تبعاً لمبادئ الإباحية التي يعتنقونها، كذلك مناطقهم يتم تأمينها دفاعياً بصورة جيدة، حتى أن أمريكا قد أصابها الجنون من عدم قدرتها على تدمير هذه الجيوب والقضاء عليها وإلحاقها بأنظمة الدول التي تدور في فلك أمريكا أو ما يطلق عليه زوراً الأمم المتحدة، إلا أننا نسجل أننا نعتقد ونؤمن أن الحرب هناك بين منظومتين يجتمع فيهما الكفر والظلم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق