المقالة الثانية: الابتلاء بين النفس البشرية وسنن الله في الدعوات .
{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} .
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد:
منذ أن تُشرق شمس الهداية على نفس المسلم في مجتمعنا إلا وتبدأ معها
سلسلة من
الابتلاءات، وتتنوع مظاهر الابتلاء والفتن التي يواجهها المرء، وتبدأ تمر
بالمرء مشاكل وأحداث عادية أحياناً كان يواجه أصعب منها قبل الهداية إلا أن
إحساسَه بها بعدما خالطت بشاشة الإيمان قلبه إحساسٌ مختلفٌ تمامَ
الاختلاف، فهذه فتنة الزوجة وهذه فتنة المال وهذا ابتلاء له في عمله ومصدر
رزقه وهكذا، وكلما نجح في مواجهة فتنة نكتت في قلبه نكتة بيضاء بقدر حجم
الفتنة التي نجح في تخطيها فما زال إيمانه في ارتفاع.{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} .
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد:
منذ أن تُشرق شمس الهداية على نفس المسلم في مجتمعنا إلا وتبدأ معها
قبل أن ننتقل إلى القضية الهامة التي سنتناولها في هذا المقال ينبغي تسجيل ملاحظة هامة هنا سيكون لها أكثر من دلالة في موضوع المقال , ألا وهي أن كثيراً منا عندما يراجع نفسه يجد أن أفضل حالاته الإيمانيـة كانت في الفترة الأولى من الهداية، لا يشترط أن تكون منذ اليوم الأول - وإن كانت تحدث أحياناً منذ اليوم الأول - وإنما في الفترة الأولى بصفة عامة، ولعل ذلك يفسر لنا كيف أن البلاء العظيم كان ينزل على الجيل الأول منذ اللحظة الأولى، وذلك ما دفع بعض المربين أن يُطلق عبارة [أن الإيمان يُولد جبلاً في كثير من الأحيان] هذا مع افتراق أن الجيل الأول كان يولد إيمانهم كبيراً إلا أن ما يواجهونه من الابتلاء وثباتهم في مواجهته يرفع من مستواهم الإيماني أكثر وأكثر بينما نحن للأسف نتعلم من كثير من المشايخ والمربين أن نتهرب من أي عمل يؤدي إلى ابتلاء فنبدأ في مرحلة النزول والهبوط، كذلك نسجل أن من اهتدى من الجيل الأول في مكة واجه الوقوع تحت فتنة ظهور واستعلاء الكفر، ومن اهتدى بالمدينة واجه فتنة الجهاد وبارقة السيوف.
في هذه الحلقة سنتناول أهم الفروق بين فتنة السجن والتعذيب وبين فتنة الجهاد وبارقة السيوف، وكذلك سنتناول موقف النفس البشرية منهما ومدى تقبلها لهما وإلى أي مدى يمكنها تحملهما ودلالة ذلك.
القائلون بأهمية مرحلة الابتلاء بالسجن والتعذيب قبل القيام بالجهاد تتفاوت درجاتهم ما بين فريق يغالي في هذا الأمر حتى أنهم ينصحون أتباعهم بتقبل ذلك والسعي إلى السجن والابتلاء وانتظار الفرج حتى بدون السعي الواقعي بأمر عملي يحقق الفرج، ولولا أني قرأت لمن يقول بذلك لما صدقت بوجود هذا الصنف من البشر، وهناك فريق يعتدل في هذا الأمر بأن يقوم بالصدع بالحق في وجوه أهل الباطل وبالإعداد المادي والمعنوي وجمع الأنصار المسلحين لا سعياً وراء السجن والتعذيب ولكن إذا حدث صبروا وعدوا ذلك تربية للأفراد، أما الفريق الثالث فهو الفريق الذي فرّط في الأمر حتى إنه يبعد عن أي أمر يؤدي إلى مشاكل مثل الصدع بالحق في وجوه أهل الباطل أو الإعداد المادي، ولكن لا ينسى هذا الفريق أن يتبجح ويكون أكثر هذه الأصناف صياحاً: إنه في المرحلة المكية ومرحلة الصبر! ولا أدري ماذا ترك للمرحلة المكية من أحكام، فسبيل هذا الفريق جلّه مخالف للمرحلة المكية، فهو بين مداهنة وتعايش وتخبيص وتلبيس.
القصد: ما نريد قوله أن هذه الأصناف الثلاثة - على اختلاف حالهم - واقعون لا شك تحت فتنة ظهور واستعلاء الكفر وأهله وسيطرتهم على حركة المجتمع الذي يعيشون فيه بدرجات متفاوتة.
وما نريد أن نحذر الأصناف الثلاثة منه - بما فيهم الصنف المعتدل - أن إطالة مدة البقاء في الفتنة تحت أيدي الظالمين مدة طويلة يؤدي إلى تفلت الأتباع فالنفس البشرية - غير المعصومة - مهما بلغت من القوة لا تستطيع أن تصمد مدة طويلة في مواجهة الباطل المُستعلي، فإن طول الأمد بدون مواجهة فعلية للباطل تظهر له آثاراً لا ينكرها من خالط شباب الإسلام مدة طويلة، فمنهم من انتكس كلياً ومنهم من ترى عليه فقط علامات الهداية الظاهرة من ثوب ولحية، وفي هذا تفسير لما حدث لجماعات كان يُضرب بها المثل في الثبات والصدع وكانوا يدخلون السجن ويخرجون أكثر ثباتاً، إلا أنه عندما غُيب أتباعها في السجون فترات طويلة ظهرت التراجعات والرضوخ للجاهلية، بل حتى الصنف المفرِّط في الصدع بالحق والذي لا يواجه ابتلاءً شديداً كالسجن ونحوه إلا أنه خاضع بدرجة ما كما ذكرنا إلى فتنة استعلاء الباطل وسيطرته على المجتمع فتجد أن دفعة المراحل الأولى له قوية ثم لا يلبث أن تجد فتوراً، ولا تنشط حركته إلا بحدث يدفع للحركة شباباً يحمل دماء جديدة ويدخل الدائرة المفرغة من جديد ؛ لذلك على الرغم من أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يحث أصحابه على الصبر والثبات ومزيد من الصدع بالحق، إلا أنه كان يعمل على عدم إطالة فتنة هذه المرحلة لقسوة طبيعتها عليهم، ففتح لهم باب الهجرة للحبشة ثم إلى المدينة، كذلك أذن لهم بالنطق بكلمة الكفر تحت ظروف معينة، كذلك عمل على الترتيب لمواجهة الباطل وجمع الأنصار المسلحين، فإن القائد الحصيف لا يترك أتباعه نهباً للأعداء فترة طويلة من الزمن وإلا أدى ذلك إلى تفلت الأتباع، فيجب عليه أن يسعى حثيثا أن يخرجهم من الظلم الذي يرضخون تحته، ويعمل على استرداد حقوقهم، لذلك تجد الرسول صلى الله عليه وسلم بعد فترة بسيطة من استقراره بالمدينة أرسل سرية عبد الله بن جحش رضي الله عنه لترصد عير قريش لاسترداد بعض حقوقهم مع ما في ذلك العمل من فتح باب للمواجهة قد يلوح للبعض أنها كان يمكن أن تكون ذات عواقب غير محمودة، إلا أن هذه هي النفس البشرية السوية لابد أن تستخلص لها حقوقها وإلا فإن صبرها يوشك أن ينفد، حتى إن بلالاً رضي الله عنه عندما شاهد أمية بن خلف وقد كان أسيراً لعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه لم يتحمل أن يتركه وعبد الرحمن بن عوف يذب عن أمية ويصيح ببلال: إنه أسيري وبلال يردد فقط: ( لا نجوت إن نجا! لا نجوت إن نجا!! )، إن النفس البشرية من لحم ودم وأعصاب ولها طاقة محدودة ينبغي مراعاتها وإلا لا يلومن قادة الحركات إلا أنفسهم إذا فوجئوا بتفلت الأتباع وانفضاضهم من حولهم واحداً بعد الآخر أو سقوطهم على أقل تقدير في الفتور وانعدام العطاء، وساعتها ستنحل الحركة بالتدريج أو على أقل تقدير سيلجأ القائد إلى تحويلها إلى حركة مسخ باهتة حتى يحافظ على كيانها العددي بأن تتوقف الحركة عن أي عمل فيه تضحيةٌ كبيرة بالوقت وبالنفس وبالمال والمسكن ونحو ذلك، ويقوم بجعل الأحكام التي تصلح أن تكون استثناءً في حق أفراد مخصوصين أو حالات معينة إلى قاعدة ومنهاج يسير عليها أتباعه، هذا فضلاً عن لجوء البعض إلى لبس الحق بالباطل وإلباس الأوضاع الجاهلية لباساً إسلامياً حتى يستطيع أن يجيش أكبر عدد من الأتباع بدون إحساس بضغوط ويقوم في سبيل ذلك بلي أعناق نصوص الشرع.
إن الثبات في مواجهة هذه الفتنة والثبات في مواجهة فتنة الجهاد والقتال يرفعان من المستوى الإيماني للفرد وهما من أكثر ما يؤثر في تربية الفرد والجماعة المسلمة، لكن لماذا جعل الشرع مخارج من فتنة السجن والتعذيب واستعلاء الباطل - كالهجرة والتقية على تفاوت درجتهما الشرعية - ولم يجعل مخارج من فتنة القتال ( وهو فتنة بنص الحديث: " كفى ببارقة السيوف فتنة " ) بل جعله ماضياً إلى يوم القيامة، وجعل التخلف عنه أو عن الإعداد المادي الجدي له - خاصة عند وجوبه - من علامات النفاق.
أما بالنسبة لفتنة السجن والتعذيب فهو ما قلناه أنه مع أهميتها خاصةً في البدايات إلا أن طول مدتها يؤدي إلى تفلت الأتباع، أما فتنة الجهاد فهي:
أولاً: مشروعةٌ لدفع فتنة أكبر {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه} بل إن أعظم الفتن وهي الفتنة عن الدين بالسجن والتعذيب لا تُدفع إلا بالقتال.
ثانياً: إن فتنة القتال - على ما فيها من بلاء عظيم - يتخللها من العزة والمشاعر العظيمة ما يُذهب كثيراً من أثرها على النفس حتى إنها باب لذهاب الهم والغم.
ثالثاً: القتل في سبيل الله - وهو أمنية يتمناها الكثير تحت التعذيب - يناله الإنسان بسهولة في الجهاد، وإذا فتحنا الحديث حول هذه النقطة لن ننتهي، فعلى الرغم من الفتنة الشديدة بالدماء والجماجم وتطاير الأشلاء إلا أن النفس البشرية تستطيع أن تتقبله لمدة طويلة بل تزداد حباً له وطلباً له على عكس فتنة السجون.
كذلك فتنة استعلاء الباطل وما يصاحبها من أذى كسجن وتعذيب تعالج جوانب محدودة في النفس البشرية كالكبر وككيفية دفع النفس لأن تذل في سبيل الله وكيفية تحويل النفس الرخوة إلى أن يصلب عودها، لكنّ طولَها أكثر مما ينبغي قد يؤدي إلى أن تنكسر عزة الإنسان خاصة إذا صاحبها إذلال شديد من الباطل المُستعلي يقابله جبن خالع من الأفراد الذين يحملون الحق وسلبية في تدبير المُعالجة بالسنن الصحيحة، بينما الجهاد يعالج جميع جوانب النفس: النفس عند النصر، والنفس عند الهزيمة، والنفس عند العُجب، والنفس عند الفتح والعلو، فهو يصوغ الشخصية المتكاملة، لذلك تجد قلة من الصحابة هم من مر بالفتنتين بينما معظم الصحابة مر فقط بفتنة الجهاد ؛ لأن مراحله تكفي في جملتها في صياغة الشخصية المؤمنة والفئة المؤمنة التي ستتحمل بعد ذلك أمانة الدماء والأعراض والأموال، دماء الناس وأعراض الناس وأموال الناس.
فالجهاد فتنة وفيه دواء هذه الفتنة يخيفك أعداء الله وتخيفهم، ويكفيك عزة أن تحمل سلاحك متحرراً من كل أغلال العبودية للباطل خاضعاً لأوامر الله وحده خالقك ورازقك.
الخلاصة: أن الابتلاء بالسجن والتعذيب والصبر لفترة تحت استعلاء الكفر وأهله والابتلاء بجهاد الكفر وأهله كلاهما مهم لتربية الجماعة المسلمة والفرد المسلم ولرفع المستوى الإيماني، إلا أن الابتلاء بالسجن لا ينبغي أن يُسعى إليه حتى ونحن نفعل ما يؤدي إليه حتماً كالصدع بالحق، فنحن نصدع بالحق ونسأل الله العافية، كذلك إذا حدث ينبغي ألا تطول مدته، بينما الابتلاء والفتنة بالجهاد وبارقة السيوف يؤمر بالسعي إليه، وهو ماضٍ إلى يوم القيامة فلا ضرر معتبر على النفس من أن تطول مدته.
وعندما قلت إنه لا ينبغي أن تطول فتنة استعلاء الباطل قصدت أن نسعى لمخرج جدي لنخرج منها، أي تعمل الحركة على أن تُخرج أفرادها منها ولا يقول مسلم يفهم دين الله فضلا عن من يستحق أن يكون قائد حركة أن يكون ذلك بكتم الدين أو تبديله ليرضى الباطل فيُخفف من ضغطه، نعم قد يجوز ذلك كاستثناء لفرد ونحو ذلك كعمار رضي الله عنه، أما أن تتحول الحركة كلها إلى مرحلة استثناء داخل الأحكام المكية التي هي في الأصل استثناء - أي استثناء داخل الاستثناء! - فذلك يدل على أنها حركة مريضة عاجزة أن تحمل أمانة هذا الدين وأكرم لها أن تحل نفسها وتُحلل أتباعها من أي بيعة أو عهود حتى يدخل المخلصون منهم في نصرة من يستطيع حمل أمانة هذا الدين بقوة.
هذا ما أردت أن أنبه له، وأرجو أن يتأمله القائمون على التربية في عالمنا الإسلامي.
وسبحان من كانت سنته الشرعية تتفق مع سنته القدرية وتتناغم معهما حركة الكون والحياة، والحمد لله رب العالمين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق