مبحث تمهيدي النظام الذي يدير العالم منذ حقبة سايكس بيكو .
إن المتأمل في القرون السابقة وحتى منتصف القرن العشرين يجد أنه عند
سقوط الدول الكبرى أو الإمبراطوريات بل والدول الصغرى سواء كانت إسلامية أو غير إسلامية ولم تتمكن دولة مكافئة في القوة أو مقاربة للدولة السابقة من السيطرة على أراضي ومناطق تلك الدولة التي انهارت تتحول بالفطرة البشرية مناطق وقطاعات هذه الدولة للخضوع تحت ما يسمى بإدارات التوحش.
عند سقوط دولة الخلافة حدث بعض من هذا التوحش في بعض المناطق إلا أن الأمر استقر بعد ذلك على قريب مما أقرته معاهدة سايكس بيكو فكان تقسيم دولة الخلافة وانسحاب الدول الاستعمارية بحيث انقسمت دولة الخلافة إلى دول ودويلات تحكمها حكومات عسكرية أو حكومات مدنية مدعومة بالقوات العسكرية، وتمثلت قدرة هذه الحكومات على الاستمرار في إدارة تلك الدول بمقدار قوة العلاقة مع هذه القوات العسكرية وقدرة هذه القوات على المحافظة على شكل الدولة، سواءً بالقدرة التي تملكها هذه القوات في شرطتها وجيشها أو القدرة الخارجية التي تدعمها.
لا نخوض هنا في كيفية قيام هذه الدول وسيطرة هذه الحكومات، سواء حكمنا عليها أنها نالت السيطرة بحكم انتصارها على حكومات الاستعمار أو بحكم أنها كانت تعمل في الخفاء مع الاستعمار وكل ما في الأمر أنه انسحب ووكلها مكانه أو خليط من الأمرين، فخلاصة الأمر أن هذه الدول سقطت في أيدي تلك الحكومات بسبب كوني هو أحد هذين الأمرين أو كلاهما.
وسواءً كانت هذه الدول مستقلة حقيقة أو اتبعت كل منها في الخفاء الدولة التي استعمرتها في السابق إلا أنها بعد فترة أصبحت تدور في فلك النظام العالمي الذي تمخض بعد نهاية الحرب العالمية الثانية والذي كانت صورته المعلنة هيئة الأمم المتحدة وحقيقته قطبان هما عبارة عن دولتين يدخل تحت كل منهما معسكر من الدول الكبرى الحليفة ويتبع كل قطب عشرات من الدول التابعة.
ومقابل أن يدور نظام حكم دولة تابعة في فلك أحد القطبين محققاً مصالح هذا القطب الاقتصادية والعسكرية يقوم هذا القطب بدعم هذا النظام بمقومات الدعم المختلفة، إلا أنه وطبقاً لطبيعة سكان بلادنا التي تحكمها هذه الأنظمة - أي كبلاد سكانها مسلمون - كان هذا الدعم في الغالب دعماً محدوداً ويذهب جله لدعم أفراد الأنظمة الحاكمة أو دعم شخصي لقادة جيوش هذه الدول والقيادات المتنفذة في تلك الجيوش.
وتلا تلك الفترة انهيار بعض الأنظمة وقيام أخرى إما لتخلي القطب عنها أو عدم قدرته على حمايتها من السقوط أو لقيام القطب الآخر بدعم مجموعة أخرى اخترقت هذا النظام وأسقطته وحلت مكانه بأخذها بسنن كونية محضة.
هذه الأنظمة ما أن يستتب لها الأمر حتى تقوم بفرض قيمها التي تحملها على مجتمع كل دولة تحكمها وإذا كانت تدور في فلك قطب جديد أو مازالت تتودد للقطب الذي كان يدعم النظام السابق لها تقوم بخلط قيمها الاجتماعية والاقتصادية بقيم القطب الذي تدور في فلكه وتفرض الخليط على المجتمع، واضعة حول هذه القيم هالة من التقديس حتى لو كانت قيماً تأباها كل العقول.
خالفت هذه الأنظمة عقيدة المجتمعات التي تحكمها وقامت مع مرور الوقت والتدرج في الانحطاط بتضييع وبسرقة مقدرات تلك الدول وانتشرت المظالم بين الناس.
وطبقاً للسنن الكونية المحضة نجد أن القوى التي يمكن أن ترجع الحكم لقيم وعقيدة المجتمع أو حتى ليس من أجل العقيدة والحق من أجل رد المظالم والعدالة التي يتفق عليها الجميع المؤمن والكافر قوتان:
الأولى: قوة الشعوب وهذه تم تدجينها وتغييب وعيها بآلاف من الملهيات سواءً جانب شهوات الفرج والبطن، أو اللهاث خلف لقمة العيش أو اللهاث لجمع المال، فضلاً عن الهالات الإعلامية الكاذبة في اتجاهات شتى، ونشر الفكر الجبري والصوفي والإرجائي بين شرائحها، وبين فترة وأخرى يتم تقليم أنياب من يفيق من غفلته من هذه الشعوب عن طريق جيوش وشُرَط هذه الدول التي تعتبر هذه المهمة هي مهمتها الأساسية التي تتلقى الأموال والعطاء من أجلها وهي الحفاظ على هذه الأنظمة أو الحفاظ على دوران النظام الحاكم في فلك أحد القطبين.
الثانية: القوة الثانية التي يمكن من خلالها إرجاع المجتمع - ولو جزئياً طبقًا للسنن - إلى العدل وإلى عقيدته وقيمه هي قوة الجيوش وهذه تم إغداق الأموال المنهوبة عليها وشراؤها حتى لا تقوم بهذا الدور بل تقوم بنقيضه.
إلا أنه رغم أنف الشيطان تبقى فئة قليلة من العقلاء والشرفاء تأبى الظلم وتنشد العدل، فيدور في خلد هذه الفئة استغلال ما في أيديها من القوة لتغيير هذا الواقع للأفضل بحسب اعتقادها، إلا أن ثاني أمر يقع في خلدهم وجود القوة المجرمة التي لا تأبه بالقيم في هذه الجيوش أو في أحسن الظروف لو تم وضع خطة محكمة للالتفاف على تفاوت القوة سيقوم القطبان أو أحدهما تحت ستار الأمم المتحدة بإرغام النظام الجديد بالحيل أو بالقوة أو بالضغوط أو بكل ذلك على الدوران في فلك أحد القطبين وفرض منتفعين جدد على النظام الجديد، ويتحول هذا الشريف الذي تسلم الحكم إلى سيرة شبيهة لسيرة أمثاله السابقين وما سودان البشير عنا ببعيد.
وفي الغالب ينتهي التفكير بهؤلاء الشرفاء بالانصراف عن فكرة تغيير تلك الأنظمة والرضا بالأمر الواقع والانطواء على أنفسهم حاملين المرارة في قلوبهم، ومن يصدق مع نفسه الضعيفة منهم يستقيل من عمله العسكري وإلا فلا يلبث أن ينزلق إلى مستنقع الظلم والانحطاط تحت شعار [لا دين ولا دنيا] أو [لا خير وعدل ولا دنيا].. هكذا هي الصورة تدور في هذا الإطار منذ سقوط الخلافة.
وهم القوة مركزية القوى العظمى بين القوة العسكرية الجبارة والهالة الإعلامية الكاذبة .
القطبان اللذان كانا يسيطران على النظام العالمي كانا يسيطران من خلال قوة مركزيتهما، والمقصود بالقوة المركزية هنا هي: القوة العسكرية الجبارة التي تصل من المركز للسيطرة على مساحات الأراضي التي تخضع لكل قطب بداية من المركز وحتى أبعد طرف من تلك الأراضي، والخضوع في صورته الأولية المبسطة هو أن تدين تلك الأراضي للمركز بالولاء والتحاكم وتَجبي إليه المصالح.
ولا شك أن القوة التي أعطاها الله للقطبين [أمريكا وروسيا] جبارة في حساب البشر إلا أنها في الحقيقة وبالنظر الدقيق في حساب العقل البشري المجرد أيضا لا تستطيع أن تفرض سلطانها من بلد المركز في أمريكا مثلاً أو روسيا على أراضٍ في مصر واليمن مثلاً إلا إذا خضعت تلك البلاد بمحض إرادتها لتلك القوى، صحيح أن هذه القوة جبارة وأنها تستعين بقوة أنظمة محلية من الوكلاء الذين يحكمون العالم الإسلامي إلا أنها رغم كل ذلك لا تكفي، لذلك لجأ القطبان إلى عمل هالة إعلامية كاذبة تصور هذه القوى أنها لا تقهر، وأنها تحيط بالكون وتستطيع أن تصل إلى كل أرض وكل سماء وكأنها تحوز قوة خالق الخلق.
إلا أن الأمر المثير الذي حدث أن هذين القطبين صَدَّقا لوهلة دجلهما الإعلامي وأنهما بالفعل قوة قادرة على السيطرة التامة على أي مكان في أرجاء المعمورة، وأنها قوة تحمل خصائص قوة الخالق، فطبقاً للدجل الإعلامي فإنها قوة جبارة محيطة ويخضع لها الناس لا خوفاً منها فقط ولكن حباً فيها أيضاً لأنها تنشر الحريـة والعدل والمساواة بين البشر إلى آخر تلك الشعارات.
وعندما تخضع دولة - مهما بلغ قدرها - لوهم القوة الكاذبة وتتصرف على هذا الأساس فمن هنا يبدأ سقوطها.
وكما يقول الكاتب الأمريكي بول كينيدي: ( إن أمريكا تتوسع في استخدام قوتها العسكرية، وتتمدد استراتيجياً أكثر من اللازم وهذا سيؤدي إلى سقوطها ).
هذه القوة الجبارة مدعومة كذلك بتماسك مجتمعها في بلد المركز وتماسك مؤسسات ذلك المجتمع وشرائحه، فلا قيمة للقوة العسكرية الجبارة [الأسلحة والتقنية والمقاتلين] بدون تماسك المجتمع وتماسك مؤسساته وشرائحه، بل قد تصبح هذه القوة العسكرية الجبارة وبالاً على هذا القطب العظيم إذا انهار تماسك كيان المجتمع.
وعوامل انهيار هذا الكيان عديدة تتلخص في عبارة [عوامل الفناء الحضاري] مثل الفساد العقدي والانهيار الخلقي والمظالم الاجتماعية والترف والأنانية وتقديم الملذات وحب الدنيا على كل القيم.. الخ.
وكلما كان القطب تجتمع فيه مزيج هذه العوامل بصورة كبيرة، وتمتزج فيها تلك العوامل بصورة تنشط بعضها البعض كانت سرعة انهيار ذلك القطب أكبر، وهذه العوامل قد تكون موجودة بصورة نشطة أو موجودة بصورة خاملة تحتاج الى عامل مساعد لتنشيطها فيسقط ذلك القطب وتسقط مركزيته مهما كان يمتلك من القوة العسكرية لأنه كما قلنا أن قوة مركزيته المتمثلة في القوة العسكرية الجبارة والهالة الإعلامية الكاذبة لا تقوم بدورها إلا في مجتمع متماسك.
فما بالنا إذا كان هذا العامل المساعد هو قدر الله الذي قدره للعمل على هذه المحاور الثلاث فلا يعمل فقط على تنشيط عوامل الفناء الحضاري الخاملة بل يعمل كذلك على مواجهة القوة العسكرية بالإنهاك، فتعمل هذه المواجهة وذلك الإنهاك ذاتياً على المحور الثالث ألا وهو الهالة الإعلامية الكاذبة، فيقوم بنزع المهابة التي تصور هذه القوة أن لا شيء يقف أمامها البتة.
وهذا تماماً ما حدث للقطب الشيوعي عندما وُضع في مواجهة عسكرية مع قوة أضعف منه بمراحل بل لا تقارن به، ولكنها نجحت في إنهاكه عسكريا والأهم من ذلك تنشيط عوامل الفناء الحضاري في دياره:
- عقيدة الإلحاد في مواجهة عقائد تؤمن بحياة أخرى وإله.
- حب الدنيا والملذات والترف في مواجهة أفراد ليس عندهم ما يخسرونه.
- انحلال خلقي أقل مظاهره أن يعود الضابط أو الجندي الروسي - إن عاد - فيجد زوجته قد أنجبت من غيره أو على علاقة بغيره.
- مظالم اجتماعية طفت بوضوح على السطح عندما ضعفت الحالة الاقتصادية بسبب الحرب، فعندما يقل المال وتبدأ الأزمات المالية يظهر اللصوص الكبار خاصة إذا بدأت المحاسبة الدقيقة.
مع ملاحظة هامة: أن الضعف الاقتصادي الناشئ عن تكاليف الحرب أو الناشئ عن توجيه ضربات النكاية مباشرة إلى الاقتصاد هو أهم عوامل الفناء الحضاري حيث يهدد الترف والملذات التي تلهث خلفها تلك المجتمعات فيبدأ التنافس بينهم حولها بعد أن تقل بسبب ضعف الاقتصاد، كذلك تطفو على السطح من خلال الضعف الاقتصادي المظالم الاجتماعية مما يشعل الحروب أو المواجهات السياسية والفرقة بين شرائح كيان المجتمع في بلد المركز.
كذلك عملت هذه القوة - على الرغم من ضعفها - على المحور الثالث أي بنزع المهابة من الجيش الروسي من قلوب الشعوب التي كانت تدور أنظمتها في فلكه في أوروبا وآسيا فبدأت بالتساقط منه والخروج عليه واحدة وراء الأخرى.
بل عملت هذه القوة الضعيفة على محور رابع خاص بالأمة ألا وهو إحياء العقيدة والجهاد في قلوب الشعوب المسلمة التي كانت خاضعة تحت كيان هذا القطب لما رأت المثل والقدوة في الجهاد من هذا الشعب الأفغاني الفقير المجاور لهم الذي استطاع الصمود أمام أقوى ترسانة حربية وأشرس جيش من حيث طبيعة أفراده في ذلك الوقت، فرأينا الجهاد يخرج من أراضٍ لم يسمع بها كثير من المسلمين كالشيشان وطاجيكستان وغيرهما.
وكل ما سجلناه هنا واقع حادث بل والأهم من ذلك أن من نعم الله على من يخوض المعركة أنه أقرب أهل العلم والفراسة في تحسب ذلك، فمثلاً تحدث الشهيد - نحسبه كذلك - سيد قطب رحمه الله عن سقوط الاتحاد السوفيتي وبين من السنن التي ستؤدي إلى ذلك الكثير لكنه ما كان يستطيع أن يحدد زمناً مُتوقعاً أو بيانات محددة، في حين أن للشيخ عبد الله عزام - الذي استشهد رحمه الله قبل سقوط الاتحاد السوفيتي - تحليلاً تنبأ فيه بسقوط هذه الدولة العظمى وتشرذم جمهورياتها ونشوء حركات إسلامية مجاهدة في بعض جمهورياتها، الأغرب من هذا أن تحليله كان مبنياً على أرقام حيث جاء فيه عدد قوات الجيش الروسي صاحب أكبر ترسانة سلاح في العالم وجيش أكبر من الجيش الأمريكي من حيث العدد وأشرس وأقدر على احتمال جو المعارك وخسائرها البشرية، والأغرب من ذلك أيضاً أنه لم يكن مبنياً على انسحاب الروس من أفغانستان وإن كان يأمل ذلك وإنما مبني على أن ضغط المجاهدين سيدفع الروس لضخ مزيد من أعداد الجند داخل أفغانستان مما يقلل الاحتياطي في الجيش السوفيتي وأن هذا الضغط والنقص سيُجرئ الجمهوريات السوفيتية على محاولة الانفصال خاصة الإسلامية التي رأى سكانها قدوة عملية على إمكانية المقاومة، وتقريبا كل ما قال حدث وكأنه فيلم سينمائي، ومن هذا نعلم أن معرفة قدرات العدو وموعد هزيمته لن تتأتى لنا إلا بخوض الحرب العملية معه مهما كان لنا من عقل أو دراسات نظرية.
هنا نسجل أن بانهيار ذلك القطب سقطت جمهورياته في الفوضى لكن بسبب توفر عوامل معينة سرعان ما قامت في أغلبها إدارات دول - دون المرور بمرحلة إدارة توحش - نجح بعضها في الاستمرار حتى الآن.
نجحت إدارات التوحش في الشيشان وأفغانستان – أفغانستان لم تكن من الجمهوريات السوفيتية - في إقامة ما يمكن أن يُطلق عليه دول لكن تم إسقاطهما الآن، بل تم إعادتهما إلى مرحلة ما قبل إدارة التوحش وهي مرحلة شوكة النكاية والإنهاك ، ونسجل أن تطور الأحداث في البلدين لم تكن بسبب أحداث دخول داغستان وأحداث سبتمبر، وإن كانت قد تكون عجلت به وتفصيل ذلك يطول وقد أشرنا لما يخص أفغانستان فيما سبق.
هكذا انهار ذلك القطب ولكن سرعان ما تمكنت حضارة الشيطان من تدارك الأمر والاستمرار في التحكم في العالم من خلال تماسك القطب المتبقي [أمريكا] بحيث يقوم مع دول العالم عامة ودول منطقتنا خاصة بنفس الدور الذي كان يقوم به القطبان، بل أصبحت الصورة أشد قتامة أمام بعض الشرفاء سواءً من أهل الدين أو من غيرهم في الدول الخاضعة لهذا النظام العالمي لظنهم أن القطب المتبقي مستعصٍ على الإفناء وأن عناصر قوته تختلف عن مثيلاتها في القطب المنهار، خاصة أن هالته الإعلامية أضعاف أضعاف الهالة الإعلامية للقطب المنهار.
والبعض الآخر من أهل الصدق والجهاد كانوا يطرحون ما أراهم الله وأنشأ به التصور في أذهانهم عن ضعف العدو وقلته ليقضي الله أمراً كان مفعولاً، فكان هذا البعض يقول للباقين من أهل الدين والشعوب: يا قوم إن شراسة الجندي الروسي أضعاف ما عند الأمريكي، ولو قُتل لأمريكا عُشر من قُتل لروسيا في أفغانستان والشيشان لولت هاربـة لا تلوي على شيء، وذلك لأن بنية جنود أمريكا والغرب الآن غير بنية جنودهم في حقبة الاستعمار، فقد وصلوا لمرحلة من الترف تجعلهم غير قادرين على تحمل المعارك مدة طويلة واستبدلوا ذلك بهالة إعلامية كاذبة، يا قوم إن المركز في الاتحاد السوفيتي كان قريباً على قدر ما من البلاد التي فيها المواجهات، بل كان لها حدود مشتركة مع أرض المواجهات فكانت تتدفق الإمدادات والآليات والمدرعات بسهولة وبدون تكلفة كبيرة بينما الأمر مختلف بالنسبة لأمريكا فبعد المركز الرئيسي عن الأطراف عامل جيد ليفهم الأمريكان صعوبة الاستمرار في خضوعنا لهم وتحكمهم فينا ونهبهم خيراتنا إذا قررنا رفض ذلك، فقط إذا قررنا وأشعلنا المواجهة لإثبات ذلك.
هذه كانت الصورة حتى أحداث سبتمبر وإرهاصاتها التي بدأت بأحداث نيروبي ودار السلام.
والخلاصة: خلصت حركة التجديد المعاصرة بعد أن عركتها الأحداث والمعارك وتراكمت لديها الخبرات خلال أكثر من ثلاثين عاماً إلى أن عليها القيام ببعض العمليات النوعية المرتبة بنظام معين والتي بدأت بعملية نيروبي ودار السلام لتحقيق الأهداف التالية - بإذن الله -:
أ - الهدف الأول: إسقاط جزء هام من هيبة أمريكا وبث الثقة في نفوس المسلمين من خلال:
(1) كشف الهالة الإعلامية الكاذبة بأنها قوة لا تقهر.
(2) جعل أمريكا تستبدل حربها على الإسلام من نظام الحرب بالوكالة إلى أن تحارب بنفسها لتكشف أمام أعين شرفاء الشعوب وقلة من شرفاء جيوش الردة أن خوفهم من خلع الأنظمة لكون أمريكا تحمي هذه الأنظمة ليس في محله، وأنهم عند خلع الأنظمة يمكنهم مواجهة أمريكا إذا تدخلت.
ب - الهدف الثاني: تعويض الخسائر البشرية التي منيت بها حركة التجديد في الثلاثين عاما الماضية عن طريق مد بشري متوقع يأتي لسببين:
(1) الانبهار بالعمليات التي سيتم القيام بها في مواجهة أمريكا.
(2) الغضب من التدخل الأمريكي السافر والمباشر في العالم الإسلامي، بحيث يتراكم ذلك الغضب على كم الغضب السابق على دعم أمريكا للكيان الصهيوني مع تحويل الغضب المكبوت تجاه أنظمة الردة والظلم إلى غضب إيجابي ومد بشري لا ينضب لحركة التجديد، خاصة عندما ينكشف لأهل الغفلة من الشعوب - وهم الأكثرية - حقيقة عمالة هذه الأنظمة لأعداء الأمة بصورة لا ينفع معها أي أقنعة كاذبة، وبحيث لا يبقى حجة لأي مدعي بإسلام هذه الأنظمة وأعوانها.
ج - الهدف الثالث: العمل على إظهار ضعف القوة المركزية لأمريكا بدفعها إلى استبدال الحرب الإعلامية النفسية والحرب بالوكالة إلى أن تحارب بنفسها فينكشف للمترددين من جميع الطوائف والأصناف بل وينكشف للأمريكان أنفسهم أن بعد المركز الرئيسي عن الأطراف عامل هام جداً في إمكانية حدوث الفوضى والتوحش.
إن المتأمل في القرون السابقة وحتى منتصف القرن العشرين يجد أنه عند
سقوط الدول الكبرى أو الإمبراطوريات بل والدول الصغرى سواء كانت إسلامية أو غير إسلامية ولم تتمكن دولة مكافئة في القوة أو مقاربة للدولة السابقة من السيطرة على أراضي ومناطق تلك الدولة التي انهارت تتحول بالفطرة البشرية مناطق وقطاعات هذه الدولة للخضوع تحت ما يسمى بإدارات التوحش.
عند سقوط دولة الخلافة حدث بعض من هذا التوحش في بعض المناطق إلا أن الأمر استقر بعد ذلك على قريب مما أقرته معاهدة سايكس بيكو فكان تقسيم دولة الخلافة وانسحاب الدول الاستعمارية بحيث انقسمت دولة الخلافة إلى دول ودويلات تحكمها حكومات عسكرية أو حكومات مدنية مدعومة بالقوات العسكرية، وتمثلت قدرة هذه الحكومات على الاستمرار في إدارة تلك الدول بمقدار قوة العلاقة مع هذه القوات العسكرية وقدرة هذه القوات على المحافظة على شكل الدولة، سواءً بالقدرة التي تملكها هذه القوات في شرطتها وجيشها أو القدرة الخارجية التي تدعمها.
لا نخوض هنا في كيفية قيام هذه الدول وسيطرة هذه الحكومات، سواء حكمنا عليها أنها نالت السيطرة بحكم انتصارها على حكومات الاستعمار أو بحكم أنها كانت تعمل في الخفاء مع الاستعمار وكل ما في الأمر أنه انسحب ووكلها مكانه أو خليط من الأمرين، فخلاصة الأمر أن هذه الدول سقطت في أيدي تلك الحكومات بسبب كوني هو أحد هذين الأمرين أو كلاهما.
وسواءً كانت هذه الدول مستقلة حقيقة أو اتبعت كل منها في الخفاء الدولة التي استعمرتها في السابق إلا أنها بعد فترة أصبحت تدور في فلك النظام العالمي الذي تمخض بعد نهاية الحرب العالمية الثانية والذي كانت صورته المعلنة هيئة الأمم المتحدة وحقيقته قطبان هما عبارة عن دولتين يدخل تحت كل منهما معسكر من الدول الكبرى الحليفة ويتبع كل قطب عشرات من الدول التابعة.
ومقابل أن يدور نظام حكم دولة تابعة في فلك أحد القطبين محققاً مصالح هذا القطب الاقتصادية والعسكرية يقوم هذا القطب بدعم هذا النظام بمقومات الدعم المختلفة، إلا أنه وطبقاً لطبيعة سكان بلادنا التي تحكمها هذه الأنظمة - أي كبلاد سكانها مسلمون - كان هذا الدعم في الغالب دعماً محدوداً ويذهب جله لدعم أفراد الأنظمة الحاكمة أو دعم شخصي لقادة جيوش هذه الدول والقيادات المتنفذة في تلك الجيوش.
وتلا تلك الفترة انهيار بعض الأنظمة وقيام أخرى إما لتخلي القطب عنها أو عدم قدرته على حمايتها من السقوط أو لقيام القطب الآخر بدعم مجموعة أخرى اخترقت هذا النظام وأسقطته وحلت مكانه بأخذها بسنن كونية محضة.
هذه الأنظمة ما أن يستتب لها الأمر حتى تقوم بفرض قيمها التي تحملها على مجتمع كل دولة تحكمها وإذا كانت تدور في فلك قطب جديد أو مازالت تتودد للقطب الذي كان يدعم النظام السابق لها تقوم بخلط قيمها الاجتماعية والاقتصادية بقيم القطب الذي تدور في فلكه وتفرض الخليط على المجتمع، واضعة حول هذه القيم هالة من التقديس حتى لو كانت قيماً تأباها كل العقول.
خالفت هذه الأنظمة عقيدة المجتمعات التي تحكمها وقامت مع مرور الوقت والتدرج في الانحطاط بتضييع وبسرقة مقدرات تلك الدول وانتشرت المظالم بين الناس.
وطبقاً للسنن الكونية المحضة نجد أن القوى التي يمكن أن ترجع الحكم لقيم وعقيدة المجتمع أو حتى ليس من أجل العقيدة والحق من أجل رد المظالم والعدالة التي يتفق عليها الجميع المؤمن والكافر قوتان:
الأولى: قوة الشعوب وهذه تم تدجينها وتغييب وعيها بآلاف من الملهيات سواءً جانب شهوات الفرج والبطن، أو اللهاث خلف لقمة العيش أو اللهاث لجمع المال، فضلاً عن الهالات الإعلامية الكاذبة في اتجاهات شتى، ونشر الفكر الجبري والصوفي والإرجائي بين شرائحها، وبين فترة وأخرى يتم تقليم أنياب من يفيق من غفلته من هذه الشعوب عن طريق جيوش وشُرَط هذه الدول التي تعتبر هذه المهمة هي مهمتها الأساسية التي تتلقى الأموال والعطاء من أجلها وهي الحفاظ على هذه الأنظمة أو الحفاظ على دوران النظام الحاكم في فلك أحد القطبين.
الثانية: القوة الثانية التي يمكن من خلالها إرجاع المجتمع - ولو جزئياً طبقًا للسنن - إلى العدل وإلى عقيدته وقيمه هي قوة الجيوش وهذه تم إغداق الأموال المنهوبة عليها وشراؤها حتى لا تقوم بهذا الدور بل تقوم بنقيضه.
إلا أنه رغم أنف الشيطان تبقى فئة قليلة من العقلاء والشرفاء تأبى الظلم وتنشد العدل، فيدور في خلد هذه الفئة استغلال ما في أيديها من القوة لتغيير هذا الواقع للأفضل بحسب اعتقادها، إلا أن ثاني أمر يقع في خلدهم وجود القوة المجرمة التي لا تأبه بالقيم في هذه الجيوش أو في أحسن الظروف لو تم وضع خطة محكمة للالتفاف على تفاوت القوة سيقوم القطبان أو أحدهما تحت ستار الأمم المتحدة بإرغام النظام الجديد بالحيل أو بالقوة أو بالضغوط أو بكل ذلك على الدوران في فلك أحد القطبين وفرض منتفعين جدد على النظام الجديد، ويتحول هذا الشريف الذي تسلم الحكم إلى سيرة شبيهة لسيرة أمثاله السابقين وما سودان البشير عنا ببعيد.
وفي الغالب ينتهي التفكير بهؤلاء الشرفاء بالانصراف عن فكرة تغيير تلك الأنظمة والرضا بالأمر الواقع والانطواء على أنفسهم حاملين المرارة في قلوبهم، ومن يصدق مع نفسه الضعيفة منهم يستقيل من عمله العسكري وإلا فلا يلبث أن ينزلق إلى مستنقع الظلم والانحطاط تحت شعار [لا دين ولا دنيا] أو [لا خير وعدل ولا دنيا].. هكذا هي الصورة تدور في هذا الإطار منذ سقوط الخلافة.
وهم القوة مركزية القوى العظمى بين القوة العسكرية الجبارة والهالة الإعلامية الكاذبة .
القطبان اللذان كانا يسيطران على النظام العالمي كانا يسيطران من خلال قوة مركزيتهما، والمقصود بالقوة المركزية هنا هي: القوة العسكرية الجبارة التي تصل من المركز للسيطرة على مساحات الأراضي التي تخضع لكل قطب بداية من المركز وحتى أبعد طرف من تلك الأراضي، والخضوع في صورته الأولية المبسطة هو أن تدين تلك الأراضي للمركز بالولاء والتحاكم وتَجبي إليه المصالح.
ولا شك أن القوة التي أعطاها الله للقطبين [أمريكا وروسيا] جبارة في حساب البشر إلا أنها في الحقيقة وبالنظر الدقيق في حساب العقل البشري المجرد أيضا لا تستطيع أن تفرض سلطانها من بلد المركز في أمريكا مثلاً أو روسيا على أراضٍ في مصر واليمن مثلاً إلا إذا خضعت تلك البلاد بمحض إرادتها لتلك القوى، صحيح أن هذه القوة جبارة وأنها تستعين بقوة أنظمة محلية من الوكلاء الذين يحكمون العالم الإسلامي إلا أنها رغم كل ذلك لا تكفي، لذلك لجأ القطبان إلى عمل هالة إعلامية كاذبة تصور هذه القوى أنها لا تقهر، وأنها تحيط بالكون وتستطيع أن تصل إلى كل أرض وكل سماء وكأنها تحوز قوة خالق الخلق.
إلا أن الأمر المثير الذي حدث أن هذين القطبين صَدَّقا لوهلة دجلهما الإعلامي وأنهما بالفعل قوة قادرة على السيطرة التامة على أي مكان في أرجاء المعمورة، وأنها قوة تحمل خصائص قوة الخالق، فطبقاً للدجل الإعلامي فإنها قوة جبارة محيطة ويخضع لها الناس لا خوفاً منها فقط ولكن حباً فيها أيضاً لأنها تنشر الحريـة والعدل والمساواة بين البشر إلى آخر تلك الشعارات.
وعندما تخضع دولة - مهما بلغ قدرها - لوهم القوة الكاذبة وتتصرف على هذا الأساس فمن هنا يبدأ سقوطها.
وكما يقول الكاتب الأمريكي بول كينيدي: ( إن أمريكا تتوسع في استخدام قوتها العسكرية، وتتمدد استراتيجياً أكثر من اللازم وهذا سيؤدي إلى سقوطها ).
هذه القوة الجبارة مدعومة كذلك بتماسك مجتمعها في بلد المركز وتماسك مؤسسات ذلك المجتمع وشرائحه، فلا قيمة للقوة العسكرية الجبارة [الأسلحة والتقنية والمقاتلين] بدون تماسك المجتمع وتماسك مؤسساته وشرائحه، بل قد تصبح هذه القوة العسكرية الجبارة وبالاً على هذا القطب العظيم إذا انهار تماسك كيان المجتمع.
وعوامل انهيار هذا الكيان عديدة تتلخص في عبارة [عوامل الفناء الحضاري] مثل الفساد العقدي والانهيار الخلقي والمظالم الاجتماعية والترف والأنانية وتقديم الملذات وحب الدنيا على كل القيم.. الخ.
وكلما كان القطب تجتمع فيه مزيج هذه العوامل بصورة كبيرة، وتمتزج فيها تلك العوامل بصورة تنشط بعضها البعض كانت سرعة انهيار ذلك القطب أكبر، وهذه العوامل قد تكون موجودة بصورة نشطة أو موجودة بصورة خاملة تحتاج الى عامل مساعد لتنشيطها فيسقط ذلك القطب وتسقط مركزيته مهما كان يمتلك من القوة العسكرية لأنه كما قلنا أن قوة مركزيته المتمثلة في القوة العسكرية الجبارة والهالة الإعلامية الكاذبة لا تقوم بدورها إلا في مجتمع متماسك.
فما بالنا إذا كان هذا العامل المساعد هو قدر الله الذي قدره للعمل على هذه المحاور الثلاث فلا يعمل فقط على تنشيط عوامل الفناء الحضاري الخاملة بل يعمل كذلك على مواجهة القوة العسكرية بالإنهاك، فتعمل هذه المواجهة وذلك الإنهاك ذاتياً على المحور الثالث ألا وهو الهالة الإعلامية الكاذبة، فيقوم بنزع المهابة التي تصور هذه القوة أن لا شيء يقف أمامها البتة.
وهذا تماماً ما حدث للقطب الشيوعي عندما وُضع في مواجهة عسكرية مع قوة أضعف منه بمراحل بل لا تقارن به، ولكنها نجحت في إنهاكه عسكريا والأهم من ذلك تنشيط عوامل الفناء الحضاري في دياره:
- عقيدة الإلحاد في مواجهة عقائد تؤمن بحياة أخرى وإله.
- حب الدنيا والملذات والترف في مواجهة أفراد ليس عندهم ما يخسرونه.
- انحلال خلقي أقل مظاهره أن يعود الضابط أو الجندي الروسي - إن عاد - فيجد زوجته قد أنجبت من غيره أو على علاقة بغيره.
- مظالم اجتماعية طفت بوضوح على السطح عندما ضعفت الحالة الاقتصادية بسبب الحرب، فعندما يقل المال وتبدأ الأزمات المالية يظهر اللصوص الكبار خاصة إذا بدأت المحاسبة الدقيقة.
مع ملاحظة هامة: أن الضعف الاقتصادي الناشئ عن تكاليف الحرب أو الناشئ عن توجيه ضربات النكاية مباشرة إلى الاقتصاد هو أهم عوامل الفناء الحضاري حيث يهدد الترف والملذات التي تلهث خلفها تلك المجتمعات فيبدأ التنافس بينهم حولها بعد أن تقل بسبب ضعف الاقتصاد، كذلك تطفو على السطح من خلال الضعف الاقتصادي المظالم الاجتماعية مما يشعل الحروب أو المواجهات السياسية والفرقة بين شرائح كيان المجتمع في بلد المركز.
كذلك عملت هذه القوة - على الرغم من ضعفها - على المحور الثالث أي بنزع المهابة من الجيش الروسي من قلوب الشعوب التي كانت تدور أنظمتها في فلكه في أوروبا وآسيا فبدأت بالتساقط منه والخروج عليه واحدة وراء الأخرى.
بل عملت هذه القوة الضعيفة على محور رابع خاص بالأمة ألا وهو إحياء العقيدة والجهاد في قلوب الشعوب المسلمة التي كانت خاضعة تحت كيان هذا القطب لما رأت المثل والقدوة في الجهاد من هذا الشعب الأفغاني الفقير المجاور لهم الذي استطاع الصمود أمام أقوى ترسانة حربية وأشرس جيش من حيث طبيعة أفراده في ذلك الوقت، فرأينا الجهاد يخرج من أراضٍ لم يسمع بها كثير من المسلمين كالشيشان وطاجيكستان وغيرهما.
وكل ما سجلناه هنا واقع حادث بل والأهم من ذلك أن من نعم الله على من يخوض المعركة أنه أقرب أهل العلم والفراسة في تحسب ذلك، فمثلاً تحدث الشهيد - نحسبه كذلك - سيد قطب رحمه الله عن سقوط الاتحاد السوفيتي وبين من السنن التي ستؤدي إلى ذلك الكثير لكنه ما كان يستطيع أن يحدد زمناً مُتوقعاً أو بيانات محددة، في حين أن للشيخ عبد الله عزام - الذي استشهد رحمه الله قبل سقوط الاتحاد السوفيتي - تحليلاً تنبأ فيه بسقوط هذه الدولة العظمى وتشرذم جمهورياتها ونشوء حركات إسلامية مجاهدة في بعض جمهورياتها، الأغرب من هذا أن تحليله كان مبنياً على أرقام حيث جاء فيه عدد قوات الجيش الروسي صاحب أكبر ترسانة سلاح في العالم وجيش أكبر من الجيش الأمريكي من حيث العدد وأشرس وأقدر على احتمال جو المعارك وخسائرها البشرية، والأغرب من ذلك أيضاً أنه لم يكن مبنياً على انسحاب الروس من أفغانستان وإن كان يأمل ذلك وإنما مبني على أن ضغط المجاهدين سيدفع الروس لضخ مزيد من أعداد الجند داخل أفغانستان مما يقلل الاحتياطي في الجيش السوفيتي وأن هذا الضغط والنقص سيُجرئ الجمهوريات السوفيتية على محاولة الانفصال خاصة الإسلامية التي رأى سكانها قدوة عملية على إمكانية المقاومة، وتقريبا كل ما قال حدث وكأنه فيلم سينمائي، ومن هذا نعلم أن معرفة قدرات العدو وموعد هزيمته لن تتأتى لنا إلا بخوض الحرب العملية معه مهما كان لنا من عقل أو دراسات نظرية.
هنا نسجل أن بانهيار ذلك القطب سقطت جمهورياته في الفوضى لكن بسبب توفر عوامل معينة سرعان ما قامت في أغلبها إدارات دول - دون المرور بمرحلة إدارة توحش - نجح بعضها في الاستمرار حتى الآن.
نجحت إدارات التوحش في الشيشان وأفغانستان – أفغانستان لم تكن من الجمهوريات السوفيتية - في إقامة ما يمكن أن يُطلق عليه دول لكن تم إسقاطهما الآن، بل تم إعادتهما إلى مرحلة ما قبل إدارة التوحش وهي مرحلة شوكة النكاية والإنهاك ، ونسجل أن تطور الأحداث في البلدين لم تكن بسبب أحداث دخول داغستان وأحداث سبتمبر، وإن كانت قد تكون عجلت به وتفصيل ذلك يطول وقد أشرنا لما يخص أفغانستان فيما سبق.
هكذا انهار ذلك القطب ولكن سرعان ما تمكنت حضارة الشيطان من تدارك الأمر والاستمرار في التحكم في العالم من خلال تماسك القطب المتبقي [أمريكا] بحيث يقوم مع دول العالم عامة ودول منطقتنا خاصة بنفس الدور الذي كان يقوم به القطبان، بل أصبحت الصورة أشد قتامة أمام بعض الشرفاء سواءً من أهل الدين أو من غيرهم في الدول الخاضعة لهذا النظام العالمي لظنهم أن القطب المتبقي مستعصٍ على الإفناء وأن عناصر قوته تختلف عن مثيلاتها في القطب المنهار، خاصة أن هالته الإعلامية أضعاف أضعاف الهالة الإعلامية للقطب المنهار.
والبعض الآخر من أهل الصدق والجهاد كانوا يطرحون ما أراهم الله وأنشأ به التصور في أذهانهم عن ضعف العدو وقلته ليقضي الله أمراً كان مفعولاً، فكان هذا البعض يقول للباقين من أهل الدين والشعوب: يا قوم إن شراسة الجندي الروسي أضعاف ما عند الأمريكي، ولو قُتل لأمريكا عُشر من قُتل لروسيا في أفغانستان والشيشان لولت هاربـة لا تلوي على شيء، وذلك لأن بنية جنود أمريكا والغرب الآن غير بنية جنودهم في حقبة الاستعمار، فقد وصلوا لمرحلة من الترف تجعلهم غير قادرين على تحمل المعارك مدة طويلة واستبدلوا ذلك بهالة إعلامية كاذبة، يا قوم إن المركز في الاتحاد السوفيتي كان قريباً على قدر ما من البلاد التي فيها المواجهات، بل كان لها حدود مشتركة مع أرض المواجهات فكانت تتدفق الإمدادات والآليات والمدرعات بسهولة وبدون تكلفة كبيرة بينما الأمر مختلف بالنسبة لأمريكا فبعد المركز الرئيسي عن الأطراف عامل جيد ليفهم الأمريكان صعوبة الاستمرار في خضوعنا لهم وتحكمهم فينا ونهبهم خيراتنا إذا قررنا رفض ذلك، فقط إذا قررنا وأشعلنا المواجهة لإثبات ذلك.
هذه كانت الصورة حتى أحداث سبتمبر وإرهاصاتها التي بدأت بأحداث نيروبي ودار السلام.
والخلاصة: خلصت حركة التجديد المعاصرة بعد أن عركتها الأحداث والمعارك وتراكمت لديها الخبرات خلال أكثر من ثلاثين عاماً إلى أن عليها القيام ببعض العمليات النوعية المرتبة بنظام معين والتي بدأت بعملية نيروبي ودار السلام لتحقيق الأهداف التالية - بإذن الله -:
أ - الهدف الأول: إسقاط جزء هام من هيبة أمريكا وبث الثقة في نفوس المسلمين من خلال:
(1) كشف الهالة الإعلامية الكاذبة بأنها قوة لا تقهر.
(2) جعل أمريكا تستبدل حربها على الإسلام من نظام الحرب بالوكالة إلى أن تحارب بنفسها لتكشف أمام أعين شرفاء الشعوب وقلة من شرفاء جيوش الردة أن خوفهم من خلع الأنظمة لكون أمريكا تحمي هذه الأنظمة ليس في محله، وأنهم عند خلع الأنظمة يمكنهم مواجهة أمريكا إذا تدخلت.
ب - الهدف الثاني: تعويض الخسائر البشرية التي منيت بها حركة التجديد في الثلاثين عاما الماضية عن طريق مد بشري متوقع يأتي لسببين:
(1) الانبهار بالعمليات التي سيتم القيام بها في مواجهة أمريكا.
(2) الغضب من التدخل الأمريكي السافر والمباشر في العالم الإسلامي، بحيث يتراكم ذلك الغضب على كم الغضب السابق على دعم أمريكا للكيان الصهيوني مع تحويل الغضب المكبوت تجاه أنظمة الردة والظلم إلى غضب إيجابي ومد بشري لا ينضب لحركة التجديد، خاصة عندما ينكشف لأهل الغفلة من الشعوب - وهم الأكثرية - حقيقة عمالة هذه الأنظمة لأعداء الأمة بصورة لا ينفع معها أي أقنعة كاذبة، وبحيث لا يبقى حجة لأي مدعي بإسلام هذه الأنظمة وأعوانها.
ج - الهدف الثالث: العمل على إظهار ضعف القوة المركزية لأمريكا بدفعها إلى استبدال الحرب الإعلامية النفسية والحرب بالوكالة إلى أن تحارب بنفسها فينكشف للمترددين من جميع الطوائف والأصناف بل وينكشف للأمريكان أنفسهم أن بعد المركز الرئيسي عن الأطراف عامل هام جداً في إمكانية حدوث الفوضى والتوحش.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق