بحث

الأربعاء، 15 أبريل 2015

إدارة التوحش : دستور ومنهجية الخوارج في تدمير الدول : 12.

الفصل العاشر إتقان التربية والتعلم أثناء الحركة كما كان العصر الأول .

في دراسة سابقة نُشر مقتطفات منها - يسر الله نشرها كاملة - ناقشنا قضية التربية، وبيَّنَّا فيها كيف

تربى الجيل الأول بين الأحداث وسأنقل هنا بعض النقاط من هذه الدراسة فيما يرتبط بالجزئية التي نتناولها هنا:

أساليب التربية:

(1) التربية بالموعظة:

- أعظم العظات التي بثها الرسول عليه الصلاة والسلام في أصحابه كانت من كتاب الله سبحانه وتعالى، البعض يجعل ذلك أسلوباً مستقلاً ويطلق عليه [التربية بالقرآن]، وإن كنت أرى أن مفهوم التربية بالقرآن له خصوصية سنوضحها تجعلنا لا نقبل هذا التقسيم.

- ومما يدخل في [التربية بالموعظة] كذلك [التربية بالقصة] - البعض يجعلها أسلوباً مستقلاً -، ومن القصص التي قصها رسول الله على أصحابه قصة الغلام والراهب، وقصة الثلاثة الذين حبستهم الصخرة بالكهف وغيرها فضلاً عن القصص التي ساقها القرآن الكريم.

- ومما يدخل في [التربية بالموعظة] كذلك [التربية بضرب المثل] - البعض يجعلها أسلوباً مستقلاً -، ومن الأمثال التي ضربها الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه ما جاء في الحديث الشريف " مثل المؤمنين في توادهم.. " إلى آخر الحديث , وغيرها من الأمثال فضلاً عن الأمثال التي ضربت للمؤمنين في القرآن.

(2) التربية بالعادة:

المقصود بها تعويد الأفراد على السلوك المراد تربيتهم عليه حتى وإن لم يتذوقوه كاملاً في البداية، كما جاء الشرع بتعويد الصبيان على الصلاة والعبادة، وهذا الأسلوب لا يقتصر على الصغار، فإن القائد والمربي يمكن أن يمارسه مع الكبار كذلك، بل كان بعض السلف يربون أنفسهم به.

(3) التربية بالطاعة:

رغم أن فعل الطاعات كالصلاة والصيام وبذل الصدقات يعتبر نتيجةً وهدفاً للأساليب السابقة إلا أنها أسلوب مثالي للارتقاء بالنفس البشرية.

(4) التربية بالقدوة:

إن رؤية النماذج البشرية المستجيبة لأوامر الله مهما كلفها ذلك، والتي تبذل الغالي والنفيس من أجل دين الله، تعتبر من أهم الوسائل في رفع مستوى الأفراد.

وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أصحابه في زمنه ومن بعده أفضل القدوات لأمتهم وللناس في عهدهم، بل وأفضل القدوات للناس في كل العصور، حتى إن قادة الجيوش كانوا يطلبون مدداً كبيراً من الخليفة فيرسل لهم عدداً لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع رسالة أن الواحد منهم بألف مُعدِّداً أعماله ومناقبه، وما أن ينتشر بين صفوف الجيش - وأغلبهم من سكان البلدان المفتوحة - سيرة هؤلاء حتى تدب في الصفوف روح جديدة من الإقبال على الطاعات بصفة عامة وطاعة الجهاد بصفة خاصة، وتقديم الغالي والنفيس في سبيل ذلك، وما كان ذلك إلا بسبب وجود هؤلاء القدوات بين الصفوف، لذلك عندما يوجد بين صفوفنا رجال يبذلون الغالي والنفيس استجابة لأوامر الله - كل أوامر الله - سيكون هؤلاء أفضل طريق للارتقاء بصف الحركة المؤمنة وخاصة حديثي العهد بالعمل الاسلامي.

سعد بن أبي وقاص وقف يخطب في أهل البلد الذي عيَّنه الخليفة أميراً عليها فقال لهم مما قال: ( لقد رأيتني سابع سبعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس لنا طعام إلا ورق الشجر.. ) إلى أن قال: ( وما رأيت واحداً منا الآن إلا أميراً على مصر من الأمصار وأعوذ بالله أن أكون في نفسي عظيماً وعند الله وضيعاً ) - أو كما قال رضي الله عنه - فكان هؤلاء مثالاً وقدوةً ونماذج حية مبهرة للشعوب حديثي العهد بالإسلام ليمتثلون لأوامر الله ويبلوا بلاءً حسنا في معارك الفتوحات التي خاضوها وهم حديثو عهد بالإسلام، كان الصحابة رضي الله عنهم قدوة ونماذج حية في الصبر والعزم والهمة العالية والشجاعة والتواضع مع العزة والقوة والعدل.

وبمناسبة ذلك كنت أتعجب من شبهة منتشرة بين عدد من فصائل الحركة الإسلامية - وإن كان مصدرها قيادات حركة الإخوان إلا أنها الآن تم نقل عدواها بين أكثر من اتجاه - تقول الشبهة: ( أننا نعمل الآن ولا نحتاج لمشاكل وجهاد وإنما نُعد لجيل الجهاد الذين هم أبناؤنا وأحفادنا.. ).

ونطرح على مبتدع تلك الشبهة ومقلديه - الفارِّ من تنفيذ الأوامر الشرعية - هذا السؤال:

أين النماذج البشرية الحية التي سيتخذها هؤلاء الأبناء قدوة ؟ فأنتم قدوة أبنائكم وإن قعدتم قعدوا، وسيمارسون الجهاد في صورة [النضال التنموي] وسيتركون القتال كآبائهم.

(5) التربية بالأحداث:

إن المواقف التي تمر بالأفراد من أكبر المؤثرات لتشكيل وجدانهم، عندما يكون يومك وحياتك هما سلسلة من المواقف العظيمة التي تتخذها أمام فتنة الغير - فتنة الولد والمال والزوجة والعدو -، عندما ترتبط كل هذه المواقف على خصوصيتها بأحداث ضخمة تخطف اللب وتجعلك دائماً في صراع مع نفسك خشية السقوط أو تأنيباً لزلة أو سقطة وقعت فيها، واستشعارك بارتباط كل جزء فيها بالآخر، فما من زلة مع النفس أو المال ونحو ذلك إلا وتؤثر وقد تسبب في زلة وكبوة أمام العدو.

- لا شك في أهمية ما سبق من أساليب إلا أننا لو نظرنا بعمق إلى المنهج الرباني في الارتقاء بالجماعة المسلمة جعل من أسلوبين من الأساليب السابقة وسيلة لتفعيل أثر باقي الأساليب بل واستعمل المنهج الرباني هذين الأسلوبين في صياغة الشخصية المسلمة الصياغة المُثلى منذ أول يوم.. فما هما..؟

هما التربية بالأحداث والتربية بالقدوة:

فالأحداث والابتلاءات والفتن التي واجهها الأصحاب منذ أول يوم دخلوا فيه الإسلام، والقدوات والنماذج الحية العملية التي ثبتت أمام تلك الأهوال هي التي أخرجت لنا هذا الجيل الفريد، إن أثر الطاعات والعبادات التقليدية وأثر المواعظ بل وأثر القرآن تضاعف أثرها أضعاف مضاعفة في الارتقاء بالأفراد في وجود هذين الأسلوبين.

فالأحداث الرهيبة التي تلفت أنظار الناس وتعيشها الحركة المجاهدة وثبات نماذج بشرية أمام الأهوال الناتجة عن هذه الأحداث يرسخ معانٍ في القلوب لا يمكن أن يصل لها الأفراد في مئات السنين من التربية الهادئة.

إن تربية القرآن التي يظن البعض أنها كانت يمكن أن تعطي أثرها بمجرد التلاوة وتعليم الأحكام واستخراج العبر لتستقبلها النفوس وتعمل بما فيه لم تكن أبداً على هذه الصورة، إنما نزل القرآن على النفوس وهي منصهرة وقبل أن يأمرها بالأوامر كان يحدثها عما يخالجها فكان أثره وفهمه له شأن آخر.

لذلك ينبغي علينا تعليم الناس أثناء الحركة، واستغلال كل حدث لربط الناس بالعبودية والطاعة واللجوء إلى الله سبحانه وتعالى.

ترى لو نزلت الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}لو نزلت هذه الآية على الأصحاب وهم في غرفة مغلقة أو جلوس داخل المسجد..؟

هل كان تأثيرها والاستجابة لها يكون مثل الاستجابة عندما نزلت على الأصحاب في غزوة بدر، كيف لا يستجيبون وهم يرون بأعينهم آيات الله في القتال تتنزل وتمتنع إن هم خالفوا أمره فلن يرفع البلاء إلا الاستجابة لأوامر الله، ومع كون الآية تقصد الجهاد كما جاء في التفسير إلا أنها عامة في أهمية الاستجابة لكل أوامر الله ففيها الحياة، ترى لو نزلت آية تحريم الخمر أو آية وجوب الحجاب في غير جو المحنة والأهوال التي كانت تحيط بالمؤمنين ما مقدار الاستجابة ؟

ورحم الله سيد قطب فهو القائل: ( إن هذا القرآن لا يكشف أسراره إلا للذين يخوضون به المعارك والذين يعيشون في الجو الذي تنزل فيه أول مرة ) , لذلك تنبه علماء السلف وأهل النظر الثاقب من المعاصرين إلى هذه القضية فهذا شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - يقول: ( من كان كثير الذنوب فأعظم دوائه الجهاد.. ) وهذا شيخ الإسلام ابن القيم يجعل من يواظب على القيام والصيام والقراءة والذكر - وكل ما هو غاية أصحاب التربية الهادئة - ويعطل الجهاد والصدع بالحق من موتى القلوب وممن يمقتهم الله نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.

وهذا الشيخ محمد الأمين المصري يقول: ( أما القائلون كيف يمكن الجهاد والمسلمون مشتتون جاهلون بعيدون من معاني دينهم فجوابهم: علاج هذا كله بالدخول في ميادين القتال.. ) إلى أن قال رحمه الله: ( إن أعظم ميدان للتربية ميدان القتال.. ) ويقول: ( ثم إن تزكية النفوس وتربية الإخلاص في العمل يجب أن تتم في حقل الجماعة الإسلامية وفي ميادين الجهاد وهكذا كانت تربية المسلمين الأولين.. ) ويقول: ( إن النقطة الهامة التي نريد إيضاحها هي أثر الجهاد العملي في تربية الجماعة وفي نفوس أفرادها.. إن الأمة التي تواجه الشدائد وتكافح الصعاب ويعيش أبناؤها في جهد دائم وجهاد متواصل، هي الأمة التي تستحق الحياة وهي التي يكتب لها البقاء والظفر.. ) ويقـول: ( كان الجهاد العملي لدى المسلمين الأولين مقترناً بالجهاد النفسي، لم ينفك أحدهما عن الآخر لحظة واحدة، وكان الجهاد العملي أكبر وسيلة لتربية المسلمين وإقرار المعاني السامية والمثل الرفيعة في نفوسهم ).

هذا الأسلوب التربوي بما يشمله من شدائد وأهوال هو الوحيد القادر على إخراج قاعدة صلبة قادرة على حمل أمانة الدماء والأموال والأعراض وقيادة العالم.

يقول صاحب الظلال رحمه الله: (.. الله - سبحانه - هو الذي يتكفل بهذا لدعوته.. فحيثما أراد لها حركة صحيحة، عرَّض طلائعها للمحنة الطويلة , وأبطأ عليهم النصر , وقللهم , وبطأ الناس عنهم , حتى يعلم منهم أن قد صبروا وثبتوا، وتهيأوا وصلحوا لأن يكونوا هم القاعدة الصلبة الخالصة الواعية الأمينة.. ثم نقل خطاهم بعد ذلك بيده - سبحانه - والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.. ) .

ويقول رحمه الله: (.. ولا بد من البلاء كذلك ليصلب عود أصحاب العقيدة ويقوى.. فالشدائد تستجيش مكنون القوى ومذخور الطاقة , وتفتح في القلب منافذ ومسارب ما كان ليعلمها المؤمن في نفسه إلا تحت مطارق الشدائد.. والقيم والموازين والتصورات ما كانت لتصح وتدق وتستقيم إلا في جو المحنة التي تزيل الغبش عن العيون، والران عن القلوب.. وأهم من هذا كله، أو القاعدة لهذا كله.. الالتجاء إلى الله وحده حين تهتز الأسناد كلها، وتتوارى الأوهام وهي شتى، ويخلو القلب إلى الله وحده.. لا يجد سنداً إلا سنده.. وفي هذه اللحظة فقط تنجلي الغشاوات، وتتفتح البصيرة، وينجلي الأفق على مد البصر.. لا قوة إلا قوة الله.. لا حول إلا حوله.. لا ملجأ إلا إليه.. والنص القرآني هنا يصل بالنفس إلى هذه النقطة على الأفق: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ.. .. ) .

يقول الشيخ محمد أمين المصري: (ثم إن تزكية النفوس وتربية الإخلاص في العمل يجب أن تتم في حقل الجماعة الإسلامية وفي ميادين الجهاد وهكذا كانت تربية المسلمين الأولين.. عاش المسلمون في غزوة الأحزاب ثلاثين يوماً والعدو محيط بالمدينة من أطرافها وليل الصحابة كنهارهم حذر مستمر وسهر دائم والمسلمون يعانون من الخوف والجوع والعدو ما يعانون، وهنالك في مثل هذا الجو المحاط بالرهبة المطبقة الذي تسلم فيه النفوس إلى بارئها وتفوض الأمور إلى مدبرها وتتيقظ الضمائر وتستيقظ العزائم، يجد المؤمنون العون مصاحباً لا يفارق في الحركات والسكنات، وفي هذا الجو الخاشع المخيف تتجلى معاني الإقدام في سبيل الله وتتضاعف قوة الإيمان وتمحص القلوب، يتم كل هذا بما لا يمكن أن يتم مثله - بل جزء يسير منه - في مئات السنين في العزلة وفي أعماق الزوايا.

إن روح الإيثار تبدو في ساعات الشدة، والمعاني الرفيعة تغرس في القلوب في الساعات التي تتعرض فيها الجماعات للأخطار، والموت مخيم على الجميع بظله الرهيب.

وروح الصبر على الشدائد والجلد على المكاره , وروح الثقة بالله والإيمان به والإخلاص له وانتظار فرجه , وروح التعاون والتآزر، كل هذه تبرز في ساحات الجهاد وفي صفوف المؤمنين الذين يقدمون أرواحهم خالصة لوجه الله.. وحياة القتال تلك الحياة التي يقدم المؤمن فيها المعاني الطيبة فيسهل الإيثار وتسقط الأنانية وتذهب الأثرة، أما الدعوى مجاهدة النفس في حالات الرخاء والأمن والدعة فهي مشوبة بكثير من المغالطات.. ) .

إن هذا النوع من التربية هو الذي سيخرج الجيل القادر على حمل أمانة هذا الدين وينقل الأمة للالتحاق بدرب الجهاد، وهو الذي سيخرج من خلاله القادة الحقيقيون للأمة وذلك لأن الكلام على المنبر سهل وفي الصحف أسهل وفي الكتب أسهل وأسهل أما أن يُهدم البيت وتُشرد الأسرة وتمزق الأم والأخت إلى أشلاء فذلك لا يقدر عليه إلا الأفذاذ من الرجال، والقيادات العظيمة والجنود الأشداء لا يخرجون إلا من مثل هذا الجو، الأمة فقط تنتظر قائداً قادراً على اتخاذ القرارات الحاسمة الصحيحة، لا يهاب المفاسد المزعومة مثلما فعل أبو بكر قيل له الكل ضدنا، أمامنا المرتدون وأمامنا الروم والفرس فلا تنفذ بعث أسامة وإن كنت فاعلاً لكونه أمر نبوي فتألف مانعي الزكاة ممن لم يرتد صراحة، فقال وقد أمسك بخناق عمر رضي الله عنهما: ( أجبار في الجاهلية خوّار في الإسلام ؟ والله لو حدث من المفاسد أن جرت الكلاب نساء المؤمنين لأنفذن بعث أسامة ولأقاتلن من منع عقالاً ) هل تسلم أبو بكر القيادة لكونه عرض برنامجاً انتخابياً لم يُعرض برنامج مثله من الآخرين ؟ , وكيف كانت له القدرة على اتخاذ القرار الحاسم ؟ ألم تقدمه الأعمال في ميزان الوحي وفي قلوب وعقول الأصحاب ؟ أليس لأنه دفع تكاليف المسيرة كلها بجوار الرسول القائد صلى الله عليه وسلم وخاض معه جل الغزوات مسيرة الدماء والأشلاء والجماجم، مثل هؤلاء الرجال فقط هم الذين يستطيعون فهم القضية وتقدير الأمر والقدرة على اتخاذ القرار الحاسم الذي يقول عنه العسكريون في كتب الحرب: ( القرار الحاسم هو القرار الذي يحتمل وقد يُرجَّح من اتخاذه وقوع كارثة ولكن يجب اتخاذه لاعتبارات أخرى ولا يقدر على ذلك إلا القائد الحقيقي ) والأمة تنتظر مثل هؤلاء القادة ومثل ذلك القرار منذ سنين الذبح , وهؤلاء القادة لا يخرجون إلا عن طريق هذا النوع من التربية , وقد خرجت طلائعهم - والحمد لله - وننتظر المزيد بإذن الله وفضله.

في مثل هذا الجو سنتربى وتتربى معنا الأمة على مواجهة الأهوال العظام التي ترافق الحروب بصلابة وشجاعة، ونحن وإن كنا تجرعنا بعض مرارتها مع الهوان الذي أصابنا، في ظل فقه الهزيمة الذي أفرزته بعض الاتجاهات، فقد آن لنا أن نواجه تلك الأهوال في صلابة وعزة عسى الله أن يأذن لنا بإيقافها يوماً ما، في إحدى معارك الأفغان في مواجهة الروس قام الرجال بجمع النساء والشيوخ والأطفال في المسجد ليقللوا خسائر القصف فسقطت قذائف على المسجد فقتل جميع من فيه ماعدا طفلة بقيت في حجر جدتها التي انشق رأسها وتدلى ما بداخله أمام حفيدتها فجعل أحد المجاهدين العرب يهدئ في الطفلة التي تهذي من الذعر وهو يبكي فقال له الأفغاني: ما يبكيك ؟ قال له العربي: ألا تشعر ؟ إنهم أهلك وذووك.. قال الأفغاني: هذه هي الحرب وأنا وأنت سنمضي مثلهم في يوم ما.

وما قلناه عن رفع المستوى الإيماني نقوله عن رفع المستوى العلمي، والمتتبع لأسباب نزول الآيات ومناسبات أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم يجد أن الآيات نزلت والأحاديث قيلت - سواء في مكة أو المدينة - في ظل أحداث رهيبة فهي إما قبل البلاء أو المعركة أو أثناء البلاء أو المعركة أو بعد البلاء أو المعركة، بل إن بعض الصحابة قد تعلموا مسائل في العقيدة أثناء المعركة، مثل مسألة كيف يدخل الرجل الإسلام ؟ كما حـدث مع أسامة بن زيد رضي الله عنه عندما قتل من نطق بالشهادتين، ومثل مسألة ذات الأنواط، وفي مثل ذلك الجو ترسخ المعاني لذلك علينا جعل هذه الأجواء التي تمر بتجمعاتنا وأمتنا فرصة للارتقاء علمياً بالأفراد والناس.

ما أريد قوله من كل هذا أن الارتقاء بالناس إيمانياً وعلمياً هو أحد أهم أهداف مرحلة شوكة النكاية والإنهاك ومرحلة إدارة التوحش ولن يتم في جو أفضل من جو وحرارة هاتين المرحلتين ونسأل الله الثبات والمغفرة.

كما أن حرارة الأحداث هي أفضل بيئة للتربية كذلك تدفع لنا كل يوم أفواج الشباب ليلتحقوا بقوافل الجهاد، وها نحن نرى بلاداً في آسيا كماليزيا وأندونيسيا وكبلدان الاتحاد السوفيتي السابق، وقل مثل ذلك عن مدن كالفلوجة وغيرها، يخرج من تلك المواقع كل يوم أنصار للجهاد، هم من جانب لا يعرفون هيئة كبار العلماء ولا تلك الأوضاع التي شكلت انحراف الشباب الملتزم في بعض أقطار العالم العربي، وهم كالصفحة البيضاء تدفعهم الفطرة والعاطفة الصادقة لنصرة الدين، نعم قد يكون لذلك أثر سلبي كعدم الانضباط الشرعي، لكن هذا هو دورنا أن نملأ هذا الفراغ، فهذا الشباب لن يترك الجهاد بفضل الله، فقد وجد فيه فطرته البشرية، وسيتلقى التوجيه من أي قدوة ونموذج حي للجهاد، ومن نعم الله علينا أن القدوات المعاصرة المتمثلة في القيادة العليا للجهاد ومن حولها من القيادات منضبطون علمياً، وحولهم لجان علمية وشرعية على أعلى مستوى، فما علينا إلا أن نوصل توجهاتنا إلى هذا الشباب، على أن يتم إعداد منهج علمي وتربوي للارتقاء بهم أثناء الحركة والقتال، لعل الله أن يخرج لنا من بينهم قادة هداة فاتحين بفضله ومنته.

مع ملاحظة أن بعض هذه الأماكن كأندونيسيا وماليزيا وبلدان الاتحاد السوفييتي السابق لها جذور حركات إسلامية ومرجعيات علمية إلا أن هذه المرجعيات - خاصة المخلصة منها - تتطلع منذ زمن إلى العالم العربي مهد الإسلام منتظرة قيادات علمية جهادية تتبعها، والشباب بفطرته النقية هناك يتوق إلى عبق تأريخ الإسلام العظيم، فقط ينتظر من يوجهه ويحدد له حركته وبمن من الأعداء يبدأ.

يُراجع في مسألة التربية:

- كتاب [سبيل الدعوة الإسلامية] وكتاب [من هدي سورة الأنفال] وهما للشيخ العلامة محمد أمين المصري رحمه الله.

- كتاب [الظلال] تفسير آيات الابتلاء وآيات الغزوات خاصة الأحزاب.

- كتب وشرائط الشيخ عبد الله عزام رحمه الله بصفة عامة.

في خاتمة المبحث الثالث ننبه لما يلي:

- لقد تعمدت تكرار خطة العمل في هذا المبحث والمبحث الذي قبله أكثر من مرة، وذكرت ملامح لها من أكثر من جانب وذلك حتى يكون لدى قارئ هذه الدراسة تصور واضح للعمل القائم وأهدافه، وأحب أن أنبه أن ذكر ملامح الخطة من أكثر من جانب قد يوهم القارئ سريع القراءة أن الخطة غير واضحة، ولذلك لن يتمكن من استيعابها من القراءة السريعة، لذلك على القارئ أن يقرأ بتركيز وتأنٍ ويتنبه إلى اختلاف تفاصيل العمل في مناطق مجموعة الدول الرئيسية عن تفاصيل العمل في مناطق باقي الدول، وأن مناطق الدول الرئيسية تعمل بخطة مقسمة إلى مرحلتين تنقلهم لمرحلة التمكين، وخطوات المرحلة الأولى مختلفة أحيانا عن خطوات المرحلة الثانية ومتشابهة أحيانا أخرى، بينما مناطق باقي الدول تعمل على نظام مرحلة واحدة في الغالب حتى يأتيها الفتح والتمكين من خارجها - بإذن الله - إلا أنه لا شك أن خطوات عملهم تتأثر بالتطورات في مناطق الدول الرئيسية.

- أننا مهما أتقنا هذه القواعد ومهما أتقنا عملياتنا وحصدنا نتائجها، فيجب ألا يصيبنا العُجب أو الغرور يوماً، فما نحن فيه من فضل فمن الله وحده، ومن تأمل حقيقة حالنا لعلم ما نحن فيه من ضعف وأنه لا حول لنا ولا قوة إلا بالله، فما علينا إلا أن نسدد ونقارب ونأخذ الأسباب المُستطاعة ونتوكل في كل ذلك على الله وحده فهو مولانا ولا مولى لنا غيره، والذي لو وكلنا إلى أنفسنا طرفة عين لهلكنا، حتى أني عندما كنت أسمع خبر بعض العمليات كنت أتحسب بقدر ما أقصى أهداف من اتخذ قرار العملية إلا إني كنت أفاجأ بعد ذلك أن نتائج العملية بفضل الله فاقت كل التوقعات وأكبر مما كانت تتخيله المجموعة المنفذة أو المخططة لها، فالحمد لله أولاً وآخراً الذي وفق رجال التوحيد والجهاد في عملهم لنصرة دينه وأنجح هذه الأعمال وبارك في نتائجها، وأنبه أني أحياناً أسمع أو أقرأ لبعض الشباب عبارات أو مواضيع فيها شيء من العُجب بالأعمال أو الكبر وذلك محمود إذا كان من باب العزة على الكفار أو أهل الإرجاف أما لو كان غروراً أو عجباً أو كبراً محضاً فأعيذ شبابنا أن يقع في هذا.

- طريقنا طويل وشاق وما زال فيه الكثير والكثير من العمل والتضحيات ويحتاج لقدر كبير من العطاء والبذل، ولنتذكر بذل وعطاء الصحابة رضوان الله عليهم وكيف أنهم بعد هزيمة أحد وكانوا مازالوا يدفنون شهداءهم ومازالت الدماء على ثيابهم قد استنفرهم الرسول صلى الله عليه وسلم لملاحقة القوم في حمراء الأسد فما قال أحد منهم ذرنا نرجع لبيوتنا نُبدِّل ملابسنا ونهيئ حالنا، فما وهنوا لما أصابهم وما ضعفوا ولا استكانوا وإنما نفير وراء نفير وبذل وراء بذل وهمم طالت قمم الجبال حتى نالوا ما أرادوا من عز الدنيا والآخرة، ونزل فيهم قول الله تعالى وقتها:{الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ .

ووالله لكأني أرى المجاهدين يُمكن لهم في بلاد المغرب - خاصة في الجزائر - فإذا منَّ الله عليهم بذلك في صباح ذلك اليوم القادم - بإذن الله - فلا وقت للراحة فلا يصلِّينَّ أحدهم العصر إلا في تونس على حدود ليبيا وليبدأوا في صباح اليوم التالي في التأهب لفتح ليبيا ومصر، والعدو يعرف دفعة أعمالنا جيداً، حتى أن وزير خارجية تونس قال للصحفيين عام 93: ( لا يغرُّكم ما عليه هدوء الأوضاع والسيطرة عليها في تونس فإذا حدث تغييـر في الجزائر أو مصر فسيحدث تغيير في تونس بعد ربع ساعة).

ووالله لكأني أرى المجاهدين يُفتح لهم في جزيرة العرب فإذا منَّ الله عليهم بذلك في ذلك اليوم القادم - بإذن الله - فعليهم التأهب مباشرة للانطلاق لفتح الدويلات التي تحكمها هذه الأنظمة الحقيرة في الأردن والخليج، وبإذن الله بخروج أمريكا من العراق سيسقط ما تبقى من هالتها الكاذبة وستسقط كل الأنظمة التي تدعمها وسينقض الشرفاء في هذه الدول يأخذون حقوق الأمة التي سلبتها هذه الأنظمة العميلة، وستفتح شعوب هذه الدول ذراعها للفاتحين بفضل الله ومنته، فما كان الله ليضيع بذل الباذلين وإنما هو الصبر واليقين.

{وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون }.

.. وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ .

ثم بعد ذلك تتوجه الجموع بعون الله لتحرير القدس وما حولها وتحرير بخارى وسمرقند والأندلس وجميع أراضي المسلمين ثم ننطلق لتحرير الأرض والبشرية من هيمنة الكفر والظلم وما ذلك على الله بعزيز، وتلك بشارة رسوله صلى الله عليه وسلم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق