المقالة الرابعة : السنن الكونية بين الأخيار والأغيار.
{وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} .
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
ذكـرت في مقال قديم أن حقيقة المنهج السلمي الذي عليه جماعات كف الأيدي إنما هو مأخوذ من المنهج المعروف بمنهج غاندي، بل لقد صرح بعض
مفكري هذه الجماعات
بذلك محاولاً الإيحاء أن منهج غاندي نموذج معاصر لسيرة الرسول صلى الله
عليه وسلم بالمرحلة المكية، تعالى دين الله عن إفك وبهتان هؤلاء.
{وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} .
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
ذكـرت في مقال قديم أن حقيقة المنهج السلمي الذي عليه جماعات كف الأيدي إنما هو مأخوذ من المنهج المعروف بمنهج غاندي، بل لقد صرح بعض
علَّق أحد أدعياء الفهم نافياً أن تياره الإصلاحي يتشبه بغاندي قائلاً: ( أنه يمكن أن يتهم الحركات المجاهدة بالمقابل أنها على منهج مشابه لمنهج الجيش الأحمر الايرلندي ..!! لأن هذا الجيش يتبنى المقاومة المسلحة..!! ).
قد يستغرب هذا الدعي وكثير من القراء أن الرد عليه أن كلامه عن الحركـات المجاهدة صحيح بقدر ما!! مع بعض التحفظات.
وحتى نحل الإشكال الذي يظهر من هذه الإجابة كان هذا المقال:
بداية كان المقال المشار إليه يهدف إلى تبيين أن حركات كف الأيدي باتباعها منهج غاندي قد اتبعت منهجاً مخالفاً للسنن الكونية ولن يحقق الأهداف التي يسعون إليها، وأن منهج غاندي المخالف للسنن ليس هو ما أسلم له ولحزبه مقادير الأمور في دولة الهند ودفع عنه غائلة الإنجليز، والحقيقة أنَّ السنة التي دفعت الإنجليز أن يسلموا مقادير الأمور لغاندي كانت الجهاد الذي قام به المسلمون بالهند والمقاومة المسلحة التي قامت بها بعض الطوائف الأخرى التي قامت بإنهاك الإنجليز قرابة قرنين من المقاومة المتواصلة والتي كانت كلما خبت عادت أشد بدون يأس حتى نفد صبر الإنجليز، مما دفعهم للقيام بتسليم مقاليد البلاد بطريقة سلمية لرجل له شهرة بطبيعة شخصيته، تحفظ لهم مصالحهم بعد ترك الهند وتؤمن عدم قيام دولة مسلمة في هذه البلاد هذا على أحد التفسيرين لما حدث وعلى التفسير الآخر أن ذلك حلقة من مسلسل الخروج من المستعمرات وتسليمها لحركات عميلة سواء في قيادتها أو في الملتفين حول القيادة، وترجيح أحد التفسيرين يطول شرحه ويخرجنا عن موضوعنا.
لذلك أهل العقل الصحيح مجمعون وعلى يقين أن حركة غاندي لم تخرق السنن ولم يظهر من خلالها سنة جديدة لم تعرفها البشرية، وأن قيام الدول والتمكين لا يكون إلاَّ من خلال القوة وسُنَّة التدافع، حتى الدول الديمقراطية قامت بعد حروب أكلت الأخضر واليابس، حتّى تمّ غلبة أحد الفريقين على الآخر، فتواضع المنتصرون على هذا الشَّكل من النّظام السياسي، وهذه الصورة من الحياة.
السُنَّة التي مكَّنت من قيام الدولة الإسلامية في المدينة هم الأنصار المسلحون من الأوس والخزرج الذين حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على إيجادهم طوال فترة وجوده بمكة ليبدأ بهم مرحلة التمكين حتى لو تطلب الأمر ترك الديار والأهل والمال لأنه يعلم أن الأنصار المسلحين هم من سيأتون بالمساجد والديار والأهل والمال وجميع المكتسبات، وأوضح من ذلك دخول الكثرة في الإسلام واتساع الدولة حدث بعد الفتح والنصر تبعاً لسنن كونية لا تنخرم، بينما منهج جماعات كف الأيدي يتجنب جمع الأنصار المسلحين بحجة أن ذلك سيؤلب عليهم الأنظمة الطاغوتية مما يعرض مكتسبات دعوتهم للخطر زعموا!!، ويتجنب الهجرة إلى بلاد أو أراضٍ أو جبال بها أنصار وتؤمن التدريب على الجهاد حتى لا يُتهموا أنهم يسعون لتقويض دولة الطواغيت!! وتحت حجة أنهم لا يريدون أن يفرغوا الديار من الدعاة - زعموا -، وهم بذلك خالفوا السنة الشرعية بالمرحلة المكية التي هي سنة كونية أيضاً، وسهلوا على الطاغوت أن يقوم كل فترة - بدون عناء - بحصد تلك المكتسبات الدعوية متبعاً سياسته المعروفة [سياسة خلع الأنياب] تاركاً جماعات كف الأيدي تدور في حلقة مفرغة سوداء مظلمة لتبدأ من نقطة البداية من جديد وأحياناً من خلف نقطة البداية وأحياناً لا تستطيع المعاودة ولنا في تونس عبرة.
لقد وقفت كثير من الحركات الإسلامية التي نشأت بعد سقوط الخلافة طويلاً أمام الإجابة على سؤال: ما هي الطريق الشرعية لإحياء دولة الإسلام ؟ وقد أخذ هذا السؤال شوطاً بعيداً من الوقت والجهد للوصول إلى الجواب الصحيح، أو لتحديد معالمه خاصة في وجود أسئلة أخرى عجزوا عن الإجابة الواضحة عليها سواء في توصيف الواقع أو حكم الله فيه.
ومن يتأمل في الأمر يجد أن دولة الخلافة سقطت، والدول الاستعمارية كانت منهكةً من كثرة المقاومة التي كان كثير من فصائلها حركات إسلامية، لكن للأسف أكثر هذه الحركات لم تتوصل للإجابة الواضحة على كثير من التساؤلات الهامة التي كانت الإجابة عليها ستجعلهم يقفون الموقف الشرعي الصحيح المتفق بالتأكيد مع السنن الكونية، مما كان سيمكنهم من تغيير الواقع طال الزمن أو قصر، فقط على الأقل كانوا بالإجابة الصحيحة سيضعون أنفسهم على أول الطريق المستقيم الصحيح بدلاً من هذه الحلقة المفرغة التي وضعتهم فيها الوساوس الشيطانية التي تملأ عقولهم.
عند سقوط الخلافة كانت جميع الأحزاب اليسارية واليمينية في مجتمعاتنا في طور النشوء، إلا أنَّ هذه الأحزاب وخصوصاً اليساريّة شدّت الخطى وسعت بتقدّم ناجح نحو أهدافها في بناء دولهم ومجتمعاتهم بينما كان المسلمون في تنظيماتهم يتناظرون فيما بينهم على الطريقة النبويّة في إقامة دولة الإسلام، وهو أمر مشين معيب، وعلى الرغم من أن أهل الإسلام كانوا يملكون الرصيد الأكبر لتحصيل الغلبة في امتلاك الدولة، لكن بكلّ سهولة ويسر تحوّل مَن لا يملك الرَّصيد إلى حاكمِ دولةٍ ومن يملكُ الرصيد إلى مُهاجر مُطارد لا يملك مترَ أرض يموت فيه مرتاحاً.
لقد بنى النّاس دولهم وأقاموا لها الأساسات والعُمُد ووثّقوا أركانها وجَنَوا خيراتها وربّوا الأمّة على ما
يريدون، وكسبوا مواقع متقدّمة، وما زال أهل الإسلام يتناظرون ويتشاجرون حول الطّريقة المثلى لإقامة الدّولة الإسلاميّة ؟!! وكلّ المتناظرين يزعمون أنّ دليلهم فيما يقولون من إقامة الدّولة الإسلاميّة مشتقّ من الطّريقة النّبويّة.
وللأسف ما زال بعض الناس يظنُّ أن هذه الطريقة تحتاج إلى مزيد من الكشف والدراسة، ومازال الكثير من أهل الدين يجمع الناس ليحدّثهم عن الطريقة المُثلى في إسقاط الطواغيت، أو الطريقة المثلى في إحياء دولة الخلافة.
الإخوان المسلمون في مصر أيام حسن البنا بلغ تعداد جماعتهم قرابة المليون كما تقول الروايات، في بلد تعداد سكانه وقتها حوالي عشرين مليون، أما تنظيمهم الخاص [العسكري] فقد كان يشتمل على جهاز مخابرات أقوى من جهاز مخابرات الحكومة المصرية حتى أنهم رصدوا مجموعات الشباب للأحزاب الأخرى التي كانت تتدرب للقيام باغتيالات للإنجليز وأعوانهم من الحكومة المصرية، بينما مخابرات فاروق لم تكن تدري شيئاً عن ذلك، وليرجع القراء إلى كتاب [النقاط فوق الحروف] لأحمد عادل كمال، وهو واحد من أبرز أعضاء الجهاز الخاص للإخوان في الأربعينات والخمسينات، ويشرح فيه أحمد عادل كمال بكل صراحة مدى التخبط المنهجي والخلل الذي أضاع منهم الفرصة وقتها، وقد بين فيه أن جمال عبد الناصر كان يعتمد على تنظيم أضعف بكثير من تنظيم الإخوان بل كان دعم الإخوان له قبل وبعد الثورة عامل نجدة له في السنوات الأولى للثورة، بالطبع الإخوان وقتها أخذوا جانباً غير مكتمل من سنة المدافعة ولكن حرفوا مسارها وأهدافها، ثم بعد ذلك تنكروا لها بالكلية، ونبذوها وراء ظهورهم مع أن الجزء الذي أخذوه وقتها من هذه السنة كان تقريباً الشيء الوحيد المستقيم في منهجهم.
لقد كان الشيخ الطنطاوي - غفر الله لنا وله - يستطيع أن يحرّك دمشق كلّها بخطبة واحدة من خطبه، وكان يستطيع أن يحشد أهل دمشق إلى أيّ قضيّة يريد، بالرغم أن عدو الله ميشيل عفلق - أحد مؤسسي حزب البعث - لم يكن يستطيع أن يجمع حوله مائة شخص من أجل تنظيم مظاهرة أو درس، بل لم يكن يستطيع البعثيّون والشّيوعيّون أن يكسبوا أصوات الجهلة في قرى سوريا حتّى يضعوا أمام أسمائهم لقب شيخ أو حاج.
المسلم المهتدي معه توفيق الله تعالى وبالتّالي هو أقرب إلى تحصيل أهدافه من الكفّار، ومن أسماء الشرع عندنا: الهداية، ومعناها البصيرة في إدراك المطلوب، فبالتّالي ما هو شرعيّ أقرب إلى غيره في الوصول إلى الهدف فمُمْتَثِل الطّريقة الشّرعيّة أقرب من العاصي في إدراك المراد.
لماذا حتى الآن لم يسأل المشايخ أنفسهم: لماذا وصل الكافر إلى هدفه وجنى المسلم ضدّ مراده ؟ لماذا بنى البعثيّون دولتين وشيوخ الإسلام لم يجدوا مأوى لهم ؟ مع أنّ كلّ أدوات المعركة كانت بين أيدي المسلمين ومشايخهم كما قدّمنا وكان القليل منها بيدِ أعدائهم خلافاً لواقعنا الآن.
أليس هذا السؤال يوجب عليّ وعلى كلّ عاقلٍ -لم يؤجّر عقله لغيره - أن يعتقد أنّ ما قاله المشايخ عن الطريقة النبويّة في إقامة الدولة الإسلاميّة هو خطأ على الطريقة النبويّة، وليس خطأ من الطريقة النبويّة ؟
إنَّ الطريقة النَّبوية هي عينها الطريقة الكونيّة في إقامة الدُّول إلاّ أنّ الخطاب الشرعي لا يَثبُت إلاّ بدليلٍ شرعي، وبالتّالي فإنّ مِن الخطأ الشّنيع أن يظنّ أحدٌ أنّ السّيرة النّبويّة لها نظام خاصٌّ وقواعد مستقلّة خارج نظام وقواعد وسنن التّغيير السّننيّ في البشر جميعاً، وهذا فيه ردٌّ على أولئك الذين يجعلون الطّريقة النّبويّة طريقة خاصّة لا يعرفها إلاّ أهل الإسلام في إقامة الدّولة.
إنَّ الطريقة الكونيّة التي يسلكها عقلاء البشر في بناء دَولتهم هي عينها الطريقة النبويّة في إقامة الدولة الإسلاميّة، لأنّ الدَّولة شيءٌ وجوديٌّ كونيٌّ واسمها يُطلق على شيء واحد عند البشر جميعاً ولكن المضاف إلى هذه الدولة هي الأحكام والقِيَم التي تحكم بها هذه الدولة، فهذه دولة إسلاميّة لأنها تحكم بالإسلام وقِيَمُها مستمدّة من الإسلام، وهذه دولة شيوعيّة لأنها تحكم بالقيم الشيوعية، وهذه دولة بعثية لأنها تحكم بقيم حزب البعث، ولكن اسم الدولة مشترك بينها جميعاً وهو يُطلق على شيءٍ وجودي واحد، والشيء الوجودي [السُنَّة القدريَّة] شيء جامع للبشر جميعاً بغضِّ النظر عن دينه وقيمه.
من الممكن أن أدلل على ما جاء بالمقال بكلام لعلماء السلف كابن القيم وابن تيمية، ولكن ما فائدة ذلك إذا كان القوم عقولهم لا تدرك ذلك بدون أقوال هؤلاء الأعلام.
من مجمل ما سبق يتضح للقارئ كيف أني عقبت على كلام المعترض على المقال السابق أن كلامه صحيح بقدر ما، ولكني ذكرت أن هناك بعض التحفظات منها:
- أن أهداف الأغيار قد يختلط فيها أهداف مشروعة في ديننا وأهداف غير مشروعة ومن ثم تكون السنن الكونية التي تحقق لهم أهدافهم مختلطة بما هو جائز وما هو غير جائز.
وذلك لأن كل السنن الشرعية والوسائل المشروعة أو المأمور بها شرعاً لتحقيق هدف ما ؛ هي أنجع السنن الكونية لتحقيق ذلك الهدف ضرورة لأن الله أكمل لنا الدين وأنزله لنا يهدي للتي هي أقوم، بينما القدر الكوني لا يلزم أن يكون شرعياً، فإن السرقة تحصل بها على المال إلا أنها غير مشروعة.
للأغيار أهداف تشابه الأهداف المشروعة للمؤمنين وأهداف مغايرة، فمثلاً هدفهم إقامة دولة لكن مثلاً تجد العزة فيها لعنصر طائفي معين، أما المؤمنون فالناس عندهم سواسية والدولة عندهم من أهدافها رحمة جميع الخلائق، لتؤمن فيها الدعوة لهداية البشرية التي أضلها الشيطان، وعدم إهدار أموال وإزهاق أنفس بدون داعي، لذلك حتى تتحقق لهم أهدافهم تحتاج لما ينال بها من أسبـاب كونية،فأخذهم بالقتال كسبب كوني يحيطونه بأسباب أخرى كونية - وهي شرعية بالطبع - تحقق مجموع أهدافهم، فهم يتجنبون تقصد الأطفال والنساء ما دام لا توجد مصلحة شرعية أكبر في استهدافهم - كردع العدو على القيام بمثل ذلك في مذهب بعض أهل العلم -، وهم لا يتقصدون العدو لعنصره وجنسيته فمن تاب من العدو وأصلح يأخذ بعمله مكانة في الدنيا والآخرة أكبر من المؤمن السابق، ما دام عمله أفضل.
بينما الأغيار قد لا يراعون هذه الضوابط إلا لحاجتهم لأهداف أخرى أو أهداف تشابه أهداف أهل الإيمان.
كذلك الأغيار لا مانع عندهم من الاتحاد الكامل مع من يخالفهم كلياً في اعتقادهم ضد عدو مشترك، في حين أن من أهداف أهل الإيمان صفاء المبدأ والعقيدة عن الخلط والفساد، فلا يعملون بهذه السنة في هذه الصورة، ولهذه النقطة الأخيرة درجات وتفصيل.
كذلك انتصار المبدأ والأجر الأخروي مقدم على المصالح المادية عند المؤمنين، لذلك فقد يستمرون في المعركة على الرغم من تحقق الهزيمة رغبة في نيل الشهادة أو عدم الرضوخ أمام الأعداء، بينما الأغيار قد يرضخون أمام الأعداء لتحقيق هدف معين، أو لتحصيل بعض المصالح المادية أفضل من لا شيء.
أهم ما نريد أن نخرج به من هذه التحفظات:
(1) أن أخْذَنا بالأسباب الكونية ينبغي أن يتحدد طبقاً للأهداف الشرعية التي نسعى إليها، فلا يحدث منا تجاوز، فعند استفادة الحركة المجاهدة من كتب الأغيار في فنون الحرب كحرب العصابات وغيرها من كتب فنون وأساليب الحروب والقتال ينبغي الحذر ومراعاة أنهم وضعوا في هذه الكتب أساليب يحققون بها أهداف تشابه أهدافنا الشرعية مع أهداف لا تشابه أهدافنا الشرعية.
الحمد لله انتشر في العقد الأخير في ظل الانترنت أبحاث كثيرة لأهل التوحيد تم فيها تنقية لكتب فنون الحرب عند الأغيار مما لا يجوز، إلا أن الأمر لا يسلم من احتمال الحاجة لاستعمال بعض كتب الأغيار عند تعذر الحصول على الكتب المنقحة لذا لزم التنويه، ولقد كانت الساحة في العقود السابقة مشحونة بكتب لبعض الجماعات تضفي - بالتدليس والخلط - الشرعية على أغلب المنهاج السياسي والعسكري للأغيار - خاصة السياسي - مدعية زوراً وبهتاناً أن ذلك من السياسة الشرعية النبوية، بينما الأبحاث المنضبطة وقتها كان من الصعب الحصول عليها، ونحن نحذر هنا أنَّ الكتب السياسية والأمنية والعسكرية التي وضعتها الحركات البدعية - كالإخوان - هي أكثر خطورة من كتب الأغيار من حيث كونها تخلط بين سطورها أدلة الكتاب والسنة ووقائع السيرة بعد تحريفها، بينما كتب الأغيار الكل يقرأها وهو يعلم أن واضعها كافر، إنَّ اختراق الفكر الإخواني للبنية الفكرية للجماعات الجهادية خطيرٌ ومدمر، وإذا كانت الجماعة دعوية جهادية كان التدمير أشد، خاصة أن في الكتابات القديمة لبعض رموز الإخوان دعوة للجهاد يظن القارئ لها أن كاتبها متأصل في الفهم، في حين أنهم يخلطون في المفاهيم وتقريباً لم ينج من ضلالاتهم - ممن انتسب إليهم - إلاَّ الشيخ عبد الله عزام - رحمه الله - وشرح ذلك يطول.
القصد: يجب أن نعتبر بما حصل في الجهاد الأفغاني الأول من حكمتيار هدانا الله وإياه وسياف ورباني، ولولا خشية الإطالة لنقلت كيف أن الأصول التي تربى عليها هؤلاء كانت الكتابات الإخوانية المنحرفة، مع عدم المقدرة على التمحيص خاصة لكون أصولهم أعجمية، لذلك قيل إذا أراد الله بأعجمي خيراً هداه إلى صاحب سنة.
(2) الأمر الثاني: الذي يجب أن نتنبه إليه - وهو مرتبط بالأمر الأول كذلك - وهو أن السياسة الشرعية عند أخذها بالسنن الكونية التي أخذ بها الأغيار أخذت بها في صورتها المثلى.
فمثلاً الحركات اليسارية تركز على أهمية المال وتضع له تأثيراً كبيراً في حركتها وحركة أعدائها، بل تعتبره أكبر دافع يحرك الصراع والمعارك بين البشر، أما السياسة الشرعية عندنا فهي لا تغفل دور المال وتأثيره على البشر لكن لا تجعله المحرك الوحيد أو الدافع الرئيسي للصراع خاصة بالنسبة للمؤمنين، والشرع يؤكد على أن حاجة نفس المؤمن للعبودية للخالق أكبر دافع ومحرك للصراع وأنَّ ذلك ما تمليه الفطرة السوية على أي إنسان لم تنتكس فطرته، كما يؤكد على دور المال في الصراع بما يتفق على حجمه الحقيقي، قد يكون عند أغلب قادة الأعداء وكثير من الجند والأتباع محرك أساسي، لذلك كان الضغط الاقتصادي على الأعداء من السياسة الشرعية، إلاَّ أنه عند صف المؤمنين فالأمر مختلف فالسياسة الشرعية لا تغفل عن كون المال محركاً لبعض المؤلفة قلوبهم ومحركاً ثانوياً وتابعاً لبعض الصف المؤمن، إلاَّ أنه غير أساسي لتحريك القاعدة الصلبة من المؤمنين، كذلك الشرع يجعله عنصراً أساسياً كوقود للمعركة والصراع عند الطرفين، لذلك تجد الآية تشير إلى أن المال عصب المعركة وأن نضوب النفقة على المعارك والنفقات الضرورية العادية يؤدي إلى انفضاض من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلاَّ أنَّه يطمئن المؤمنين أنه إذا انقطعت أسباب المنفقين على تكاليف المعركة والنفقات الضرورية للمؤمنين فإن لله خزائن السماوات والأرض، كل ذلك مع حث المؤمنين على النفقة في سبيل الله والتأكيد على أحكام شرعية تجعل موارد للمال كالزكاة والغنيمة ونحو ذلك.
نأخذ مثالاً آخراً لذلك الأمر ألا وهي السرية فنجد أن الشرع لم يغفل أهمية السرية كسبب كوني في الأمور العسكرية لكن لم ينس الشرع أننا في الأصل حركة هداية فعندما نغالي في الأخذ بالسرية نخرج من حيز حركات الهداية إلى حيز عصابات المافيا أو طرائق الحركات الباطنية، بل إن المبالغة في السرية بهذه الصورة المغرقة قد تعوق تنمية الكم بأن تجعل الحركة يمر عليها السنين الطوال ولم يتحصـل لها إلا أعداد هزيلة، وتعوق تنمية [الكيف] وقد بينت ما يتعلق بالـ [كيف] في خاتمة الدراسة التفصيلية، ولذلك وضع الشرع هذه السنة الكونية [السرية] بصورة مُثلى تناسب طبيعة الحركة والمنهاج الإسلامي.
ومن الأمثلة أيضا لهذا الأمر ما ذكرناه في خاتمة الدراسة التفصيلية فيما يخص الانقلاب العسكري، وبينا أنه قد ينجح كسبب كوني لقيام دولة الإسلام بصورة جزئية وذلك لأن عناصره ناقصة فينتج عنه نتائج ناقصة لا تلبث أن تنتكس، وهو حل يمكن القيام به كجزء مكمل لحركتنا لكن لا تُبنى عليه أساس الدولة الإسلامية كما حدث من العبد الصالح أبي فيروز الديلمي رضي الله عنه مع الأسود العنسي، نعم هو حل يأخذ بجانب من السنن وقد يقيم دولة للقائمين عليه كأفراد لكن يصعب استمرار هذه الدولة على صورة إسلامية متكاملة إلا إذا كان هذا الحل جزءاً من خطط وأعمال الحل السنني المتكامل الذي طرحته الدراسة المفصلة، فقد كانت حركة أبي فيروز الديلمي رضي الله عنه جزءاً من حركة الجماعة المسلمة ولم تكن عماد التحرك لها، مع ملاحظة أنه قد يكون حل سنني متكامل لحركة غير إسلامية هدفها فقط الوصول للحكم أما المنهج الإسلامي فله أهداف متعددة.
ومن الأمثلة أيضا للنقطة الأولى والثانية معاً: المؤسسات التي يتكون منها كيان الحركة أولاً وكيان الدولة ثانياً، من مؤسسات سياسية واقتصادية وعلمية فقهية وعلمية دنيوية، يدخل هذا الأمر في الواجبات التي يأمر بها الشرع تحت نصوص عامة وخاصة ولكن محاولة البعض للقفز بإقامة هذه المؤسسات قبل أوانها أو دون الطريقة الشرعية الكونية المثلى ومحاولة تقليد الأغيار كاليهود والشيعة الروافض والأحزاب السياسية الطاغوتية يؤدي حتماً إلى الوقوع في المخالفات، فاليهود يتقربون لأصحاب القوة والسلطان حتى لو كانوا يعتقدون بكفرهم، فهم يعتقدون بكفر النصارى ولكن بنوا مؤسساتهم قبل دولتهم بالتقرب لكل كافر يملك القوة والسلطان، لذلك أحيانا نقرأ لبعض الاتجاهات الإسلامية كلاماً يبين أهمية السنن الكونية ولكن عندما ننظر إلى التطبيق نجد الخلل واضحاً، فقد كتب حاكم المطيري أمين عام الحركة السلفية بالكويت مقالاً بموقع الإسلام اليوم ذكر فيه كيف أن تجاهل الجماعات الإسلامية للأخذ بسنة القوة والسعي الجدي للتمكين والحصول على السلطان أولاً يجعلها تدور في حلقة مفرغة، حتى أنه قال صراحة (.. لقد ضل أكثر علمائهم ودعاة الإصلاح فيهم عن هذه السنن الإلهية.. )، وقال: إن هذه الحركات استحالت أن تحصل على الكثرة ولو مر عليها آلاف السنين بدون سلطان، ولكن عند التطبيق نجد أن حركته تسعى للقوة عن طريق التقرب للطواغيت أهل القوة في بلده، بل للتقرب للأمريكان حيث صرح هو وقادة حركته أخيراً عندما اجتمعوا هذا العام بالسفير الأمريكي ووفد أمريكي مرافق: أن مشاريع الأمريكان في المنطقة فيها الخير الكثير!! فماذا اختلف هؤلاء عن طريقة اليهود أليس فقط الاختلاف الوحيد بينهم وبين اليهود هو دياثة اليهود باستخدامهم النساء للتقرب من أهل السلطان والقوة.
القصد: الإسلام يجعل بناء المؤسسات المشروعة بالقوة المشروعة التي تأتي عن طريق مشروع، مع ملاحظة أنَّ أيَّ عمل بنائي لمؤسسات أو غيرها يمكن تحصيله في مرحلة البدايات بدون قوة وسلطان لا يمنع الشرع من تحصيله مادام مشروعاً وموضوعاً في توقيته السنني الصحيح.
في النهاية نؤكد على أن الدّنيا دار سنن لا يجوز تركها أو معارضتها، فهي تطحن من وقف أمامها أو تلعّب بها أو تغاضى عنها بحجّة انشغاله بصلاح قلبه أو بأوراد ذكره وعبادته، فالسّنن الإلهيّة لا تُحابي أحداً ولا تتخلّف لأمنية رجلٍ كائناً من كان وهذا من تمام رحمة الله بعباده، والصحابة رضي الله عنهم خير مَن جَمَع الإتقان السننيّ للكونيّات والفَهمَ السّننيّ للشّرعيّات فاستحقّوا الولاية الدّينيّة والولاية الكونيّة، نسأل الله أن يجعلنا على هديهم ويلحقنا بهم إنه ولي ذلك والقادر عليه ، والحمد لله رب العالمين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق