بحث

السبت، 27 أغسطس 2016

يا سيدنا الحسين مدد مدد مدد.

في أول أكتوبر1956 أصدرنا جريدة مسائية جديدة اسمها جريدة المساء من مبني صحفي بناه ادجار باشا ميلاد يصدر منه جريدته الفرنسية( جورنال دي جيبت) مبني معد لإصدار جريدة فيه مطبعة وزنكوغراف وتصوير وكل شيء.. ولأول مرة في تاريخ
الصحافة المصرية طلب الأستاذ خالد محيي الدين رئيس التحرير تخصيص صفحتين كاملتين للرياضة التي كانت مهملة تماما في الصحف الكبري, فكانت عبارة عن ركن في ذيل صفحة داخلية لا أكثر.. هناك قصص صحفية مشهورة في هذا الشأن.

مثلا.. أستاذنا موسي صبري سكرتير تحرير جريدة الأخبار في ذلك الوقت نزل ذات يوم إلي المطبعة ليبحث عن مكان لبقية موضوع في الصفحة الأولي.. فنظر في صفحة ما فوجد ركنا به موضوع علي عمودين وبجواره عمود كله أخبار.. ودون أن يقرأ أو يعرف أجل الموضوع المكون من عمودين وأكتفي بالأخبار من أجل وضع بقية الصفحة الأولي.. وفي اليوم التالي اتضحت الفضيحة الصحفية..

فقد كان العمودان وصفا لمباراة الأهلي والزمالك!! والعمود الذي تركه كان عبارة عن أخبار قصيرة عن المباراة!..

في بعض الأحيان كنا نأخذ صفحة ثالثة بموافقة أستاذنا الكبير خالد محيي الدين ـــــ رحمه الله ـــــ وكان معنا أيضا الكاريكاريست( الناشئ) مصطفي حسين!!

ذات مرة.. عندما فزنا علي ألمانيا بطلة العالم علي استاد الأهلي عام1958 لم يكن استاد القاهرة أنشئ بعد.. طلب جمال عبد الناصر من سكرتيره إرسال نسخة من جريدة( المساء) لأنها الوحيدة التي سيجد فيها ما يريده من تفاصيل وصور وكاريكاتير وتعليقات وأخبار عن المباراة.

في هذا الجو الذي تألقت فيه جريدة( المساء) منفردة في السوق.. حتي إن بائعي الصحف كانوا ينتظرونها عند المطبعة تحت الدار11 شارع الصحافة أمام أخبار اليوم.

في هذا الجو.. فوجئت بالأستاذ الكبير خالد محيي الدين يستدعيني إلي مكتبه.. ويصعقني بخبر غريب للغاية.. كان الخبر كالصعقة لي وللأستاذ خالد ولكل من في الدار.. وخلاصته أن زميلين يعملان معي تحت رئاستي في القسم الرياضي أرسلا تقريرا لإدارة المخابرات المصرية أيام صلاح نصر يؤكدان فيه إنني لا أسمح قط بنشر اسم جمال عبد الناصر أو أي شيء عنه في صفحات الرياضة.. والدليل موجود.. فطوال السنوات التي اقتربت علي الثلاث لم ينشر اسم عبد الناصر في أي يوم.. هكذا كتبا الزميلين فحولت إدارة المخابرات التقرير إلي الأستاذ خالد حتي طلب مني ولو بصفة مبدئية ألا أكتب العمود اليومي ولا أضع توقيعي علي أي موضوع أكتبه كما كان يحدث.. فكنت أوقعه بالحروف الأولي( ح. ف.)

مرت أيام.. وتم افتتاح أكبر مكتبة في مصر في وسط البلد.. وهي المكتبة السوفيتية, إذ كانت مصر وروسيا تربطهما علاقة قوية بسبب بناء السد والمصانع المختلفة.. حضر الافتتاح كل الوزراء ورؤساء التحرير.

خلال الافتتاح قال الدكتور عبد القادر حاتم- شفاه الله وعافاه- لخالد محيي الدين: لماذا لاتنفذ تعليمات إدارة المخابرات العامة الخاصة بفلان؟.. إنه لا يزال يدخل الجريدة ويقبض مرتبه والمطلوب فصله تماما فهو من أسرة تمت مصادرتها!! لا تحب عبد الناصر.

ضاقت الدنيا بما رحبت في وجهي.. بل ضاق صدري.. وانقبض قلبي.. ولم أعد أستطيع السيطرة علي عقلي..

بعد كل هذا( الهيلمان) وهذه الشهرة العريضة, فقد كانت الناس تنتظر يوميا ما نكتبه ونرسمه ونصوره!! والكل يعمل لنا ألف حساب.. ياه.. ضاع كل هذا في لحظة.

وبعد أن كنت لا أكاد أنام سويعات. حين تكون الجريدة في السوق عند الظهر بعد أن نسهر طول الليل!! ثم نحضر في الصباح الباكر قبل اللمسات الأخيرة.. ياه.. ياه.. ياه بعد كل هذا أكون خارج الدار. بعد أن كنت بلا مبالغة أهم من في هذه الدار أصبحت فجأة ظلما وزورا المنبوذ في هذه الدار, أصبحت الجسم الغريب في هذه الدار الذي يجب استئصاله.. وفورا!! ياه.. ياه.. ياه.. هل الدنيا مرة إلي هذه الدرجة؟!.

وبعد فترة أصبح السؤال المنطقي الذي يفرض نفسه: كيف أثبت.. ولمن.. وأسرتي في الخارج تعادي النظام ؟؟

كنا شلة من عاداتنا أن نتواعد تليفونيا علي ميعاد عند باب سيدنا الحسين من آن لآخر قبل آذان العصر بدقائق.. فهمي عمر وأبو الحجاج حافظ المسئول عن صفحة الدين في( الجمهورية) وعثمان العبد رئيس شركة إعلانات( أخبار اليوم) الذي كان حريصا أن يلبس طاقية علي رأسه باستمرار في الصلاة والمذيع حسن عماد الذي كان يسكن خلف مسجد سيدنا الحسين.. كان الشيخ حسنين مخلوف مفتي الديار المصرية من عاداته أيضا أن يلقي درسا قصيرا مفيدا قبل العصر.. فإذا بي أسمع منه قول سيدنا يعقوب في سورة يوسف:

إنما أشكو بثي وحزني إلي الله.... ونعم بالله عز وجل

وكنا حريصين علي أن نمر علي الشيخ حلمي عرفة مدير المسجد الشهير رحمه الله تعالي.. وكان صديقا لمعظم المترددين باستمرار علي المسجد.. كنا أحيانا بعد الصلاة نمر عليه في حجرته بجوار الباب الرئيسي نشرب معه الشاي الخمسيني وبعض مخبوزات الدار( داره) طبعا لم يكن الحديث إلا عن مشكلتي.

ونحن في طريقنا إلي الخروج ذات يوم.. أمسك الشيخ حلمي عرفة يدي وهمس في أذني قائلا:
في انتظارك في موعد صلاة العشاء.

وكان مسجد سيدنا الحسين يغلق بابه آنذاك بعد ساعة من رفع آذان العشاء لكي يقوم الرجال بالكنس والتنظيف.. وتصليح أي شيء لم يكن من الممكن إصلاحه أثناء وجود الناس.

صليت العشاء.. وذهبت إلي حجرة الشيخ حلمي وإخلاء المسجد بعد مرور الساعة.

ثم ذهبت معه إلي الضريح.. وأعطاني الشيخ حلمي زعافة لإزالة العنكبوت إن وجد ومقشة وعدة فوط مبللة بالماء وبعضها ناشف.. وفتح باب الضريح فوجدنا درجة سلم واحدة من الداخل لكي ندلف منحنيا قصيرا يدخلنا إلي الضريح.

وكانت تعليمات الشيخ حلمي أن أقوم بتنظيف الضريح من الداخل ومعي أيضا كيس ابيض كبير أضع فيه الكناسة.. ثم أترك كل هذا في ركن مواجه للقبلة وأقرأ سورة يس وسورة الإخلاص21 مرة المعوذتين ثلاث مرات ثم أخرج وأترك كل أدوات التنظيف في الركن.

لا أريد أن أقسم لك لكي تصدقوني.. ولكن هذه هي الحقيقة.

وأنا أدلف منحنيا لأدخل الضريح.. ثم وأنا أخرج أيضا كنت علي يقين غريب.. بل تأكيد لا شك فيه بأن ذلك الحد الأصفر في سقف الباب الضيق هو السيف الذي سيفصل جسمي عن رقبتي بضربة واحدة.

لقد ظللت مدة ليست بالقصيرة أتحسس رأسي غير مصدق أن رأسي في مكانها

ولك أن تصدقني أو لا تصدقني عندما هبطت نازلا من الضريح كان الشيخ حلمي يقف ومعه المفاتيح بجوار الباب لكي يقفل الضريح.. تعانقنا.. هنا شعرت براحة نفسية لم أشعر بمثلها في حياتي كلها.. سواء قبل هذا الموعد أو حتي الآن.. وكأن القلبين هما المتعانقان.

بعد24 ساعة..

جاءني تليفون من الرائع خالد محيي الدين ووجدته يقول لي: إحضر بسرعة. ولما ذهبت إلي مكتبه بادرني قائلا:

جاي هنا ليه.. بسرعة علي مكتبك.. الصفحات في انتظارك واكتب عمودا قصيرا سريعا.. ؟

كنت حريصا أن أعلم ما الذي جري في الكواليس.. وما سبب هذا التحول الغريب..

اتضح أن خالد محيي الدين كعادة ضباط الثورة من آن لآخر كانوا يتناولون العشاء في منزل الرئيس عبد الناصر للدردشة ومبادلة الأخبار.. وفجأة قال عبد الناصر لخالد محيي الدين عن سبب اختفاء العمود الرياضي وانكماش بعض الصفحات.. وكان عبد الناصر يعرفني جيدا من كثرة حضوره لجريدة( المصري) التي يملكها أخوالي أبو الفتح وكنت أعمل بها.. فروي له الأستاذ خالد ما حدث فتعجب الرئيس عبد الناصر من حكاية شطب اسمي من صفحات الرياضة! وفهم الأستاذ خالد بدون كلام صريح أن لا مانع من عودتي لعملي واتصل في صباح اليوم التالي بالدكتور حاتم وروي له ما حدث في منزل عبد الناصر فكان القرار هو العودة إلي عملي وبسرعة كان هذا عام1958

ومرت أيام كثيرة جدا.. ففي ديسمبر1959 وكانت جريدة( الجمهورية) قد وصلت إلي الحضيض.. فتدهور التوزيع والإعلانات لدرجة كبيرة.. فتم تكليف المرحوم صلاح سالم بتولي أو( انتشال) الجمهورية بأي شكل وبأي ثمن.. ووضعوا تحت يده ميزانية ضخمة جدا.. فتعاقد صلاح سالم مع أهم وأكبر صحفيين من كل الصحف والمجلات.. مثل: كامل الشناوي من الأهرام وموسي صبري من الأخبار وإسماعيل الحبروك من روز اليوسف وغيرهم الكثرون.. وتم التعاقد معي لأعمل في الجمهورية بجوار جريدة المساء الذين تمسكوا بي.. حتي أصبحت( الجمهورية) بها سبعة رؤساء تحرير علي رأسهم طه حسين الذي كان يكتب ليست بصفة منتظمة, لكنه كان يكتب حينما يريد نصف عمود يكون له صدي كبير جدا.

المهم كلفني إسماعيل الحبروك الذي تولي رئاسة تحرير( العدد الأسبوعي) للجمهورية بكتابة موضوع كل أسبوع يكون بعيدا عن الرياضة تماما.. ويكون له صدي عند الناس.. فكتبت حكاية دخولي ضريح سيدنا الحسين وتنظيفه من الداخل.. وكيف تحققت( معجزة أمامي) لم يكن أحد يحلم بها.. فإذا بالأستاذ أنيس منصور.. وكان رئيسا لتحرير مجلة( آخر ساعة) في ذلك الوقت.. يكتب موضوعا في صدر المجلة يستغرق عدة صفحات لتكذيب وجود( رأس سيدنا الحسين) في مسجده بالقاهرة.. بعد أن رويت القصة كاملة.

أكد أنيس منصور من قراءاته التاريخية أن جسد سيدنا الحسين في كربلاء بالعراق ورأسه بشعر اللحية فا دمشق لأن البعض قال إن شعر لحيته فقط هو الموجود في مسجده بالقاهرة فنفي حتي ذلك أنيس منصور

كتب أنيس منصور أن أحباء( سيد شباب أهل الجنة) أخذوا رأسه من كربلاء وطافوا بها ثماني مدن هي: كربلاء والمدينة المنورة ودمشق والقاهرة وعسقلان وحلب والرقة.. ثم استقر المقام في دمشق

ما إن ظهر مقال أنيس منصور حتي اتصل بي الشيخ حلمي عرفة وطلب مني الحضور فورا.. وقال: رجل مهم في انتظارك.. في حجرة مدير المسجد.. تقابلت مع فضيلة الشيخ منصور الرفاعي الوكيل الأول لوزارة الأوقاف الذي كان مسئولا عن المساجد منذ عام1977 حتي ـــــ إوائل التسعينيات ــــ وكيلا للمساجد ومديرا لها ثم وكيلا أول للوزارة وشئون المساجد بالدعوة الإسلامية.

روي لنا الشيخ منصور قصة رؤيته.. رؤية بعين أم رأسه الأمانة الكبري علي حد تعبيره رأس سيد الشهداء في مكانها تحت ضريح المسجد قائلا:

القصة تبدأ بطلب تقدم به أحد رجال الأعمال واسمه عمر الفاروق لتجديد ضريح الإمام الحسين علي نفقته الخاصة مهما تكلف ذلك من أموال دون أن تتكلف وزارة الأوقاف جنيه واحدا.

عرض الشيخ منصور مدير المساجد الأمر علي وزير الأوقاف ووافق الوزير علي أن ننزل إلي الرأس ونعاين المكان جيدا لنقرر ما إذا كنا في حاجة لتجديده وترميمه أم لا.

وبالفعل نزلنا إلي مكان الرأس فوجدناه في حجرة صغيرة ملفوفا في قماش أخضر والحجرة تشع برائحة الزعفران والمسك والورد معا.. وأحضر عمر الفاروق قماشة خضراء جديدة ولف بها الرأس من جديد.. ووضع فيها كمية كبيرة أخري من مختلف العطور وأعاد الرأس إلي مكانه.. وخرجنا جميعا وقمنا جميعا بالإعلان علي الملأ أن الرأس موجود في الضريح كما تؤكد روايات التاريخ.

ويضيف الشيخ منصور لي مؤكدا أن علماء الآثار والتاريخ والحضارة بذلوا جهودا كبيرة في فحص وتحقيق وتحليل الروايات التاريخية التي رواها كبار المؤرخين علي مر العصور عن رحلة الرأس الشريف الذي كتب عنها أنيس منصور.. ولكن الدكتورة سعاد ماهر أقدم عميدة لكلية الآثار صاحبة الكتاب الرائع( مساجد مصر وأولياؤها الصالحون) قدمت عرضا مفصلا لكل الروايات وناقشتها واحدة واحدة في المدن الثماني التي قيل إن الرأس طاف بها أو حط رحاله في ترابها.. وخلصت إلي نتيجة واضحة ومحددة بأن رأس الحسين رضي الله عنه قد تم نقلها من مشهد العسقلان إلي مشهده المشهور بالقاهرة.

علي فكرة....

نسيت أن إقول أن الشيخ حلمي عرفة قال لي أن في وسط الأرضية غطاء حديديا سميكا له ضخما لا تقترب منه لأنه الغطاء الذي يؤدي إلي سلم الحجرة السفلية حيث توجد رأس سيد الشهداء أحب الناس لسيد الخلق أجمعين صلي الله عليه وسلم.

المصدر :

http://www.ahram.org.eg/News/1004/100/2 ... 8%9F-.aspx

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق