أ) تعريفه:
قد لا نجد في
المعاجم اللغوية ما يفيدنا في تعريف " العلم اللدني " لهذا
فلن نتحدث عن
المعنى اللغوي لهذا المصطلح ، وإنما يمكن تناوله من الناحية الاصطلاحية فحسب .
والمعنى
الاصطلاحي إنما يرجع – في الواقع – إلى ما جاء في القرآن الكريم عن العبد الصالح "
في سورة الكهف " . وهو الخضر عليه السلام ، حيث قال سبحانه عنه {آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً
مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا }( الكهف : 65 ) فمن هذه
الآية الكريمة جاء مصطلح " العلم اللدني " .
فجاء هذا
المصطلح في كتب التفسير ، وفي كلام الصوفية الذين توسعوا في الحديث عنه في كتبهم
ومقالاتهم المختلفة ورسائلهم ، حتى وجدنا حجة الإسلام أبا حامد الغزالي يقدم لنا
رسالة يسميها " الرسالة اللدنية " وقد طبعت ضمن مجموعة رسائله المسماة
" القصور العوالي من رسائل الإمام الغزالي " [1] كما ورد المصطلح في بعض
المؤلفات التي تتناول أسماء العلوم والكتب والمؤلفين في العصور المختلفة ، مثل
كتاب " أبجد العلوم " وغيره .
ومن الجدير
بالذكر أن نقول إن الإمام فخر الدين الرازي قد أشار إلى رسالة الغزالي بقوله :
" وللشيخ أبي حامد الغزالي رسالة في إثبات العلوم اللدنية " [2].
على أية حال
نجد " القنوجي " يُعرّف " العلم اللدني بأنه " العلم الذي
تعلمه العبد من الله تعالى ، من غير واسطة ملك أو نبي بالمشافهة والمشاهدة كما كان
الخضر عليه السلام ، قال تعالى : {آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ
مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا}(الكهف :65) .
وقيل : هو
معرفة ذات الله تعالى وصفاته علمًا يقينيًا من مشاهدة وذوق ببصائر القلوب " [3].
ونجد مجموعة
من المفسرين يعرفونه بأنه " يعني الإخبار بالغيوب ، وقيل : العلم اللدني ما
حصل للعبد بطريق الإلهام " . وأنه علم الغيوب " ، وأنه " علم
الباطن إلهاما " . وأنه " علم الكوائن " [4] .
ويعرفه
القرطبي بأنه " علم الغيب " ويذكر عن ابن عطية قوله " كان علم
الخضر علم معرفة بواطن قد أوحيت إليه ، لا تُعطي ظواهر الأحكام أفعاله بحسبها ،
وكان علم موسى علم الأحكام والفتيا بظاهر أقوال الناس وأفعالهم " [5] .
ويذكر ابن
كثير عن البخاري أن موسى قام خطيبا في بني إسرائيل فسُئل أي الناس أعلم ؟ فقال
موسى : أنا فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه فأوحى الله إليه أن لي عبدا هو
أعلم منك يعني الخضر فذهب إليه موسى وقال له : أتيتك لتعلمني مما علمت رشدا ، فقال
له الخضر : إني على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه أنت وأنت على علم من علم الله
علمكه الله لا أعلمه ، وهذا دليل على أن العلم اللدني عطاء من الله وليس كسبا من
العبد [6].
ويقول "
الرازي " عند تفسير قوله تعالى : { وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا }(
الكهف : 65 ) إن ذلك يُفيد أن تلك العلوم حصلت عنده من عند الله من غير واسطة ،
والصوفية سموا العلوم الحاصلة بطريق المكاشفات : العلوم اللدنية [7] .
ونجد بعض
المفسرين المحدثين يقول في تفسير هذه الآية : " أي علما خاصا بنا لا يعلم إلا
بتوفيقنا ، وهو علم الغيوب قال العلماء : هذا العلم الرباني ثمرة الإخلاص والتقوى
ويسمى (العلم اللدني) يورثه الله لمن أخلص العبودية له ، ولا ينال بالكسب والمشقة
وإنما هو هبة الرحمن لمن خصه الله بالقرب والولاية والكرامة " [8] .
كما نجد
" الغزالي " يرى " أن القلب إذا طهر من أدران المعاصي وصقل
بالطاعات أشرقت صفحته فانعكس عليها من اللوح المحفوظ ما شاء الله أن يكون ، وهذا
هو العلم المعروف بالعلم اللدني " [9] . أخذا من قوله تعالى : { وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ
لَدُنَّا عِلْمًا }( الكهف : 65 ) ويعبر الغزالي أيضا عن العلم اللدني بأنه "
سريان نور الإلهام " [10] .
هذا هو تعربف
" العلم اللدني " عند المفسرين والصوفية وغيرهم من اللذين أرخوا للعلوم
والمعارف الإسلامية .
ولقد تناول
بعض المتكلمين كالفخر الرازي ، وبعض الصوفية كالإمام الغزالي ، هذا المصطلح
بالتحليل والشرح ضمن حديثهم عن العلم والعالم والمعلوم ، وأصناف العلوم وأنواعها ،
وبينوا حقيقة العلم اللدني ضمن منظومة العلوم المختلفة .
وها نحن نبين ما
قالوه في هذا الصدد .
ب) العلم
والعالِم والمعلوم :
هناك علم وعالِم
ومعلوم : فالعلم إنما هو تصور النفس الناطقة – نفس الإنسان – المطمئنة حقائق
الأشياء ،وصورها المجردة عن المواد بأعيانها وكيفياتها وكمياتها وجواهرها وذواتها
إن كانت مفردة .
والعالِم هم
ذلك الإنسان المحيط المدرك المتصور .
والمعلوم هو
ذات الشيء الذي ينتقش علمه في النفس ، وأفضل المعلومات وأعلاها وأشرفها وأجلها هو
الله سبحانه الصانع المبدع الحق الواحد [11] .
والعلم له فضل
عظيم ؛ فهو شريف بذاته من غير نظر إلى جهة المعلوم " [12] . ، وذلك لأن
العلم ضد الجهل ، والجهل من لوازم الظلمة ، والظلمة من حيز السكون ، والسكون قريب
من العدم ، ويقع الباطل والضلالة في هذا القسم ، فإذا الجهل حكمه حكم العدم ، والعلم
حكمه حكم الوجود ، والوجود خير من العدم ، والهداية والحق والنور كلها في سلك
الوجود ، فإذا كان الوجود أعلى من العدم فالعلم أشرف من الجهل ، فإن الجهل مثل
العمى والظلمة ، والعلم مثل البصر والنور {وَمَا
يَسْتَوِي الأعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ} ( فاطر :
19 – 20 ) . وصرح المولى سبحانه بهذه الإشارات فقال : {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ
يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}( الزمر : 9 )
.
جـ)
أنواع العلم وأقسامه :
العلم
تصور وتصديق ، فنحن إذا أردنا إدراك أمر من الأمور وتصور حقيقة من الحقائق فإما أن
نحكم عليه بحكم أو لا نحكم فإن حكمنا كان هذا هو التصديق ، وإلم نحكم ، كان هذا هو
التصور ، وكل من التصور والتصديق إما أن يكون نظريا حاصلا من غير كسب ولا طلب أو
يكون بكسب وطلب .
فأما
التصور النظري أو العلوم النظرية فهي التي تحصل في النفس والعقل من غير كسب ولا
طلب ، مثل تصور الإنسان للألم واللذة ، والوجود والعدم ، ومثل تصديقنا بأن النفي
والإثبات لا يجتمعان ولا يرتفعان ، وأن الواحد نصف الاثنين .
وأما
العلوم الكسبية فهي التي لا تكون حاصلة في جوهر النفس ابتداء بل لا بد من طريق يتوصل
به إلى اكتساب تلك العلوم ، وهذا الطريق على قسمين :
أحدهما
: أن يتكلف الإنسان تركب تلك العلوم البديهية النظرية حتى يتوصل بتركبها إلى
استعلام المجهولات . وهذا الطريق هو المسمى بالنظر والتفكر والتدبر والتأمل
والتروي والاستدلال ، ويتم بالجهد والطلب .
أما
الثاني : فهو أن يسعى الإنسان بواسطة الرياضات والمجاهدات حتى تشرق الأنوار
الإلهية في جوهر العقل ، وتحصل المعارف وتكمل العلوم من غير واسطة سعي وطلب في
التفكر والتأمل ، وهذا هو المسمى بالعلوم اللدنية [13]
.
فالنفس
الإنسانية جواهرها مختلفة بالماهية ، فقد تكون النفس نفسا مشرقة نورانية إلهية
علوية ، قليلة التعلق بالجواذب البدنية والنوازع الجسمانية ، فهي شديدة الاستعداد
لقبول التجليات القدسية والأنوار الإلهية ، ومن ثم تفيض عليها من عالم الغيب تلك
الأنوار على سبيل الكمال والتمام ، وهذا هو المراد بالعلم اللدني ، وهو المراد من
قوله تعالى : {آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ
مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا } .
أما
النفس التي لم يصف جوهرها ولم يشرق عنصرها فهي النفس الناقصة البليدة ، التي لا
يمكنها تحصيل المعارف والعلوم إلا بمتوسط بشري يحتال في تعليمه وتعلمه " [14] .
ومن
جهة أخرى ينقسم العلم إلى شرعي ، وإلى عقلي ، والشرعي ينقسم إلى ما هو علمي وهو ما
يسمى بالأصول ، وهو علم التوحيد وعلم التفسير وعلم الحديث ، وإلى ما هو عملي وهو
علم الفروع ، وهو علم الفقه وعلم الأخلاق .
أما
العقلي فهو العلم الرياضي والطبيعي ، والنظر في الموجود والصانع .. الخ . وأكثر
العلوم العقلية الشرعية عند عارفها " [15]
. {وَمَنْ
لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ } [النور: 40] .
فالعلوم
الشرعية هي المأخوذة بطريق التقليد عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وتحصل
بالتعلم لكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
أما العلوم
العقلية فهي ما تقضي به غريزة العقل ، وغير كافية في سلامة القلب ، وهي إما ضرورية
لا يدري من حصلت ولا كيف حصلت ، أو مكتسبة بالتعلم والاستدلال ، وهي دنيوية
وأخروية " [16] .
ويقسم الغزالي
العلوم التي ليست ضرورية وتحصل في القلب في بعض الأحيان إلى قسمين :
الأول هو : "
الإلهام " وفيه يهجم العلم على القلب من حيث لايدري ، وبغير اكتساب وحيلة
دليل ، وبغير تعلم . وهذا ينقسم إلى ما لايدري العبد كيف حصل ولا من أين حصل ،
وإنما هو إلهام ونفث في الروع ؛ وهذا النوع من العلم يختص به الأصفياء والأولياء ؛
وإلى ما يطلع معه على السبب الذي منه استفاد ذلك العلم ، وهو مشاهدة الملك الملقى
في القلب . وهذا العلم يسمى وحيا ويختص به الأنبياء عليهم السلام .
أما القسم
الثاني من العلوم التي ليست ضرورية وتحصل في القلب في بعض الأحيان فهي تكتسب بطريق
الاستدلال والتعلم ، وفيها يكون القلب مستعدا لأن تتجلى فيه حقيقة الحق في الأشياء
كلها ، وإنما حيل بينه وبينها بأسباب معينة ؛ وهذا النوع من العلم يختص به العلماء
[17]
.
هذا ، ويقسم
بعض الصوفية " العلم " إلى نوعين : ظاهر ، باطن .
أما العلم
الظاهر ، فهو علم الشرائع التي يأتي بها الأنبياء إلى أممهم . وأما العلم الباطن ،
فهو علم الحقيقة ، وهو الذي يعلمه الأولياء .
فابن عربي
يفسر قول الخضر لموسى : {مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا}(
الكهف : 68 ) بقوله : " أي أني على علم لم يحصل لك عن ذوق ، كما أنت على علم
لا أعلمه أنا " [18] .
ويظهر من جميع
ما أورده " ابن عربي " من قصة موسى مع الخضر ، والطريقة التي خرّج بها
الآيات الواردة عنهما في سورة الكهف ، أنه يستعمل الإسمين رمزا لصاحبي نوعين من
العلم : العلم الظاهر الذي يأتي به الأنبياء إلى أممهم ، وهو علم الشرائع ؛ والعلم
الباطن الذي يعلمه الأولياء ، وهو علم الحقيقة .
ويقول "
القاشاني " في شرحه لفصوص الحكم :" إعلم أن الخضر ، عليه السلام ، صورة
اسم الله الباطن ، ومقامه مقام الروح ، وله الولاية والغيب وأسرار القدر ، وعلوم
الهوية والأنية والعلوم اللدنية .. وأما موسى عليه السلام فهو صورة اسم الله
الظاهر وله علوم الرسالة والنبوة والتشريع " [19] .
د) طريق تحصيل
العلم :
العلم
الإنساني – عند الغزالي – يحصل من طريقين :
أحدهما :
التعلم الإنساني ، والثاني : التعلم الرباني .
أما التعلم الإنساني
، وهو طريق معروف يقر به جميع العقلاء ، فإنه يكون على وجهين :
أحدهما : من
خارج ، وهو التحصيل بالتعلم ؛ وثانيهما : من داخل ، وهو الاشتغال بالتفكر ،
والتفكر من الباطن بمنزلة التعلم من الظاهر . وبعض الناس يحصلون العلوم بالتعلم ،
وبعضهم يحصلون بالتفكر ، ولا ريب أن التعلم يحتاج إلى التفكر .
فالتعلم أو
التعليم الإنساني اكتسابي ، قوامه الفطرة الصحيحة ، والاستعداد للتلقي والتعلم
والتعليم القائم على الكتاب والسنة من المربي السليم ذي القدوة الحسنة ، وهو طريق
معروف معهود ، ومسلك محسوس" [20].
أما التعليم
الرباني ، وهو الطريق الثاني ، فإنه على وجهين أو نوعين :
الأول : إلقاء
الوحي ؛ فالنفس إذا أكملت ذاتها يزول عنها دمث الطبيعة ، ودرن الحرص والآمال
الفانية ، فإنها تُقبل بوجهها على بارئها سبحانه ، وتتمثل بوجود مبدعها ، وتعتمد
على إفادته وفيض نوره ، والله تعالى بحسن عنايته يقبل على تلك النفس إقبالا كليا ،
فيحصل جميع العلوم لتلك النفس ، وينتقش فيها جميع الصور من غير تعلم وتفكر ؛
ومصداق هذا قوله تعالى لنبيه : صلى الله عليه وسلم {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ
}( النساء : 113 ) .
فعلم الأنبياء
أشرف مرتبة لأن حصوله على الله تعالى بلا واسطة ووسيلة ، وإنما هو الوضوء من سراج
الغيب يقع على قلب صاف فارغ لطيف . ومن هنا فقد تكرر عند العقلاء أن العلم الغيبي
المتولد عن الوحي أقوى وأكمل من العلوم المكتسبة ، وصار علم الوحي إرث الأنبياء
وحق الرسل ، وأغلق الله سبحانه باب الوحي من عهد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم .
وإنما كان علمه أكمل وأشرف وأقوى لأنه عن التعلم الرباني ، وما اشتغل قط بالتعلم
والتعليم الإنساني . قال تعالى : {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى }(النجم :5) .
أما الوجه
الثاني : فهو الإلهام ، وهو يحصل للنفس على قدر صفائها وقبولها وقوة استعدادها ،
والإلهام أثر الوحي ؛ فإن الوحي هو تصريح الأمر الغيبي ، والإلهام هو تعريضه .
والعلم الحاصل عن الوحي يسمى علما نبويا ، والذي يحصل عن الإلهام يسمى علما لدنيًا
؛ والعلم اللدني هو الذي لا واسطة في حصوله بين النفس وبين الباريء . فالوحي حلية
الأنبياء ، والإلهام زينة الأولياء ، فالولي دون النبي ، فكذلك الإلهام دون الوحي [21] .
ويرى
"الغزالي" أن العلم اللدني يكون لأهل النبوة والولاية ، كما كان للخضر
عليه السلام ، حيث أخبر الله تعالى عنه فقال : { وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} .
فإذا أراد
الله سبحانه بعبده خيرا رفع الحجاب بين نفسه وبين النفس التي هي اللوح ، فتظهر
فيها أسرار بعض المكنونات ، وانتقش فيها معاني تلك المكنونات ؛ وتعبر النفس عنها
كما تشاء لمن يشاء من عباده .
وحقيقة الحكمة
تنال من العلم اللدني ، ومالم يبلغ الإنسان هذه المرتبة لا يكون حكيما ، لأن
الحكمة من مواهب الله تعالى : {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ
فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الألْبَابِ} (البقرة
: 269) ؛ وذلك لأن الواصلين إلى مرتبة العلم اللدني مستغنون عن كثرة التحصيل وتعب
التعليم ، فيتعلمون قليلا ويعلمون كثيرا .
ومما لا ريب
فيه أن الوحي قد انقطع وباب الرسالة قد انسد ، أما باب الإلهام فلا ينسد "[22] .
ويتحدث "
الغزالي " عن خطوات العلم اللدني ، فيقول : " العلم اللدني ، وهو سريان
نور الإلهام ، يكون بعد التسوية ، كما قال الله تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا}
(الشمس : 7) ؛ وهذا الرجوع يكون بثلاثة وجوه :
الأول : تحصيل
العلوم جميعها وأخذ الحظ الأوفر من أكثرها .
الثاني :
الرياضة الصادقة ، والمراقبة الصحيحة ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى هذه
الحقيقة فقال : { من عمل بما علم أورثه الله علم مالم يعلم } (أخرجه أبو نعيم في
الحلية من حديث أنس وضعفه) .
والثالث : التفكر
؛ فإن النفس إذا تعلمت وارتاضت بالعلم ، ثم تتفكر في معلوماتها بشروط التفكر ينفتح
عليها باب الغيب ، كالتاجر الذي يتصرف فيماله بشرط التصرف "السليم" ينفتح
عليه أبواب الربح ، وإذا سلك طريق الخطأ يقع في مهالك الخسران . فالمتفكر إذا سلك
سبيل الصواب يصير من ذوي الألباب ، وتنفتح روزنة (أي كوة أو طاقة صغيرة) من عالم
الغيب في قلبه فيصير عالما كاملا عاقلا ملهما مؤيدا . [23] .
هـ) العلم
اللدني أحد منازل الأولياء :
يرى "
ابن عربي " ، في شرحه للمسائل الروحانية في كتاب ختم الأولياء أن للأولياء
منازل ، وهذه المنازل على نوعين :
حسية ومعنوية .
فمنازلهم الحسية في (الآخرة) الجنان ؛ ومنازلهم الحسية في الدنيا أحوالهم ، التي
تنتج لهم خرق العوائد . فهذه منازلهم الحسية في الدارين .
وأما منازلهم
المعنوية في المعارف فهي كثيرة ولكنها تنحصر في أربعة مقامات :
1- مقام العلم
اللدني .
2- علم النور
.
3- علم الجمع
والتفرقة .
4- علم
الكتابة الإلهية .
فأما العلم
اللدني ، فمتعلقه الإلهيات وما يؤدي إلى تحصيلها من الرحمة الخاصة . وأما علم
النور ، فظهر سلطانه في الملأ الأعلى ، قبل وجود آدم بآلاف السنين من أيام الرب .
وأما علم الجمع والتفرقة فهو البحر المحيط الذي اللوح المحفوظ جزء منه [24] .
هكذا يتضح لنا
المعنى الاصطلاحي لمفهوم " العلم اللدني " كما جاء عند المفسرين والصوفية
وعلماء التصنيف ، وكيف يأتي ضمن أقسام العلم المختلفة ، وأنواعه المتعددة ، وطرق
تحصيله ومعنى أن " العلم اللدني " أحد منازل الأولياء .
المصدر :
موسوعة
التصوف الإسلامي / إصدار المجلس الأعلى للشئون الإسلامية – وزارة الأوقاف المصرية –
جمهورية مصر العربية – 1430 هـ - 2009 م .
مقالة
بعنوان العلم اللدني ، إعداد ، أ .د / محفوظ عزام ، من صـ 580 : 589 .
هوامش :
1- نشر مكتبة
الجندي – مصر .
2- الفخر الرازي
: التفسير الكبير ، دار إحياء التراث ، بيروت جـ 21 / 149 .
3- القنوجي :
أبجد العلوم – الوشي المرقوم في بيان أحوال العلوم – دار الكتب العلمية – بيروت
لبنان جـ 2 / 469 .
4- ابن عباس ،
البيضاوي ، الخازن ، النسفي : كتاب مجموعة من التفاسير ، دار إحياء التراث العربي –
بيروت جـ 1 / 123 .
5- القرطبي :
الجامع لأحكام القرآن ، دار الريان للتراث جـ 6 / 4055 .
6- تفسير ابن
كثير جـ 3 / 92 ، 93 ط الحلبي ، سورة الكهف .
7- الفخر الرازي
: مفاتيح الغيب جـ 21 / 149 .
8- الصابوني
"محمد عليّ" : صفوة التفاسير ، دار القرآن ، بيروت ، المجلد الثاني صـ
198-199 .
9- الغزالي :
المنقذ من الضلال صـ 27 ، نقلا عن د/ عبد القادر محمود : الفلسفة الصوفية في
الإسلام صـ 229 .
10- الغزالي :
الرسالة اللدنية صـ 122 ، ضمن القصور العوالي من رسائل الإمام الغزالي .
11- السابق ، صـ
98 – 99 .
12- الغزالي :
الرسالة اللدنية ، صـ 100 .
13- الفخر الرازي
: التفسير الكبير جـ 21 / 149 – 150 .
14- المرجع
السابق .
15- الغزالي :
الرسالة اللدنية ، صـ 106 .
16- الغزالي :
إحياء علوم الدين ، جـ 3 / 18- 19 .
17- الغزالي :
إحياء علوم الدين ، جـ 3 / 20 .
18- ابن عربي :
فصوص الحكم ، جـ 1 / 206 .
19- عبد الرازق
القاشاني : شرح فصوص الحكم لابن عربي ، صـ 412 ، نقلا عن تعليقات د/ أبو العلى
عفيفي على الفصل الخامس والعشرين من فصوص الحكم ، جـ 2 / 305 .
20- الغزالي :
الرسالة اللدنية ، صـ 112 ، 113 .
21- الغزالي :
الرسالة اللدنية ، صـ 114 ، 115 ، 116 .
22- المرجع
السابق صـ 117 ، 118 .
23 – المرجع
السابق صـ 122 .
24 –
الحكيم الترمذي : كتاب ختم الأولياء ، تحقيق عثمان يحيى ، المطبعة الكاثوليكية ،
بيروت ، صـ 142 ، 143 .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق