بحث

الأربعاء، 16 أبريل 2014

العلم اللدني



أ) تعريفه:

قد لا نجد في المعاجم اللغوية ما يفيدنا في تعريف " العلم اللدني " لهذا
فلن نتحدث عن المعنى اللغوي لهذا المصطلح ، وإنما يمكن تناوله من الناحية الاصطلاحية فحسب .

والمعنى الاصطلاحي إنما يرجع – في الواقع – إلى ما جاء في القرآن الكريم عن العبد الصالح " في سورة الكهف " . وهو الخضر عليه السلام ، حيث قال سبحانه عنه {آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا }( الكهف : 65 ) فمن هذه الآية الكريمة جاء مصطلح " العلم اللدني " .

فجاء هذا المصطلح في كتب التفسير ، وفي كلام الصوفية الذين توسعوا في الحديث عنه في كتبهم ومقالاتهم المختلفة ورسائلهم ، حتى وجدنا حجة الإسلام أبا حامد الغزالي يقدم لنا رسالة يسميها " الرسالة اللدنية " وقد طبعت ضمن مجموعة رسائله المسماة " القصور العوالي من رسائل الإمام الغزالي " [1] كما ورد المصطلح في بعض المؤلفات التي تتناول أسماء العلوم والكتب والمؤلفين في العصور المختلفة ، مثل كتاب " أبجد العلوم " وغيره .

ومن الجدير بالذكر أن نقول إن الإمام فخر الدين الرازي قد أشار إلى رسالة الغزالي بقوله : " وللشيخ أبي حامد الغزالي رسالة في إثبات العلوم اللدنية " [2].

على أية حال نجد " القنوجي " يُعرّف " العلم اللدني بأنه " العلم الذي تعلمه العبد من الله تعالى ، من غير واسطة ملك أو نبي بالمشافهة والمشاهدة كما كان الخضر عليه السلام ، قال تعالى : {آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا}(الكهف :65) .

وقيل : هو معرفة ذات الله تعالى وصفاته علمًا يقينيًا من مشاهدة وذوق ببصائر القلوب " [3].

ونجد مجموعة من المفسرين يعرفونه بأنه " يعني الإخبار بالغيوب ، وقيل : العلم اللدني ما حصل للعبد بطريق الإلهام " . وأنه علم الغيوب " ، وأنه " علم الباطن إلهاما " . وأنه " علم الكوائن " [4] .

ويعرفه القرطبي بأنه " علم الغيب " ويذكر عن ابن عطية قوله " كان علم الخضر علم معرفة بواطن قد أوحيت إليه ، لا تُعطي ظواهر الأحكام أفعاله بحسبها ، وكان علم موسى علم الأحكام والفتيا بظاهر أقوال الناس وأفعالهم " [5] .

ويذكر ابن كثير عن البخاري أن موسى قام خطيبا في بني إسرائيل فسُئل أي الناس أعلم ؟ فقال موسى : أنا فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه فأوحى الله إليه أن لي عبدا هو أعلم منك يعني الخضر فذهب إليه موسى وقال له : أتيتك لتعلمني مما علمت رشدا ، فقال له الخضر : إني على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه أنت وأنت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه ، وهذا دليل على أن العلم اللدني عطاء من الله وليس كسبا من العبد [6].

ويقول " الرازي " عند تفسير قوله تعالى : { وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا }( الكهف : 65 ) إن ذلك يُفيد أن تلك العلوم حصلت عنده من عند الله من غير واسطة ، والصوفية سموا العلوم الحاصلة بطريق المكاشفات : العلوم اللدنية [7] .

ونجد بعض المفسرين المحدثين يقول في تفسير هذه الآية : " أي علما خاصا بنا لا يعلم إلا بتوفيقنا ، وهو علم الغيوب قال العلماء : هذا العلم الرباني ثمرة الإخلاص والتقوى ويسمى (العلم اللدني) يورثه الله لمن أخلص العبودية له ، ولا ينال بالكسب والمشقة وإنما هو هبة الرحمن لمن خصه الله بالقرب والولاية والكرامة " [8] .

كما نجد " الغزالي " يرى " أن القلب إذا طهر من أدران المعاصي وصقل بالطاعات أشرقت صفحته فانعكس عليها من اللوح المحفوظ ما شاء الله أن يكون ، وهذا هو العلم المعروف بالعلم اللدني " [9] . أخذا من قوله تعالى : { وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا }( الكهف : 65 ) ويعبر الغزالي أيضا عن العلم اللدني بأنه " سريان نور الإلهام " [10] .

هذا هو تعربف " العلم اللدني " عند المفسرين والصوفية وغيرهم من اللذين أرخوا للعلوم والمعارف الإسلامية .

ولقد تناول بعض المتكلمين كالفخر الرازي ، وبعض الصوفية كالإمام الغزالي ، هذا المصطلح بالتحليل والشرح ضمن حديثهم عن العلم والعالم والمعلوم ، وأصناف العلوم وأنواعها ، وبينوا حقيقة العلم اللدني ضمن منظومة العلوم المختلفة .

وها نحن نبين ما قالوه في هذا الصدد .

ب) العلم والعالِم والمعلوم :

هناك علم وعالِم ومعلوم : فالعلم إنما هو تصور النفس الناطقة – نفس الإنسان – المطمئنة حقائق الأشياء ،وصورها المجردة عن المواد بأعيانها وكيفياتها وكمياتها وجواهرها وذواتها إن كانت مفردة .

والعالِم هم ذلك الإنسان المحيط المدرك المتصور .

والمعلوم هو ذات الشيء الذي ينتقش علمه في النفس ، وأفضل المعلومات وأعلاها وأشرفها وأجلها هو الله سبحانه الصانع المبدع الحق الواحد [11] .

والعلم له فضل عظيم ؛ فهو شريف بذاته من غير نظر إلى جهة المعلوم " [12] . ، وذلك لأن العلم ضد الجهل ، والجهل من لوازم الظلمة ، والظلمة من حيز السكون ، والسكون قريب من العدم ، ويقع الباطل والضلالة في هذا القسم ، فإذا الجهل حكمه حكم العدم ، والعلم حكمه حكم الوجود ، والوجود خير من العدم ، والهداية والحق والنور كلها في سلك الوجود ، فإذا كان الوجود أعلى من العدم فالعلم أشرف من الجهل ، فإن الجهل مثل العمى والظلمة ، والعلم مثل البصر والنور  {وَمَا يَسْتَوِي الأعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ} ( فاطر : 19 – 20 ) . وصرح المولى سبحانه بهذه الإشارات فقال : {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}( الزمر : 9 ) .

جـ) أنواع العلم وأقسامه :

العلم تصور وتصديق ، فنحن إذا أردنا إدراك أمر من الأمور وتصور حقيقة من الحقائق فإما أن نحكم عليه بحكم أو لا نحكم فإن حكمنا كان هذا هو التصديق ، وإلم نحكم ، كان هذا هو التصور ، وكل من التصور والتصديق إما أن يكون نظريا حاصلا من غير كسب ولا طلب أو يكون بكسب وطلب .

فأما التصور النظري أو العلوم النظرية فهي التي تحصل في النفس والعقل من غير كسب ولا طلب ، مثل تصور الإنسان للألم واللذة ، والوجود والعدم ، ومثل تصديقنا بأن النفي والإثبات لا يجتمعان ولا يرتفعان ، وأن الواحد نصف الاثنين .

وأما العلوم الكسبية فهي التي لا تكون حاصلة في جوهر النفس ابتداء بل لا بد من طريق يتوصل به إلى اكتساب تلك العلوم ، وهذا الطريق على قسمين :

أحدهما : أن يتكلف الإنسان تركب تلك العلوم البديهية النظرية حتى يتوصل بتركبها إلى استعلام المجهولات . وهذا الطريق هو المسمى بالنظر والتفكر والتدبر والتأمل والتروي والاستدلال ، ويتم بالجهد والطلب .

أما الثاني : فهو أن يسعى الإنسان بواسطة الرياضات والمجاهدات حتى تشرق الأنوار الإلهية في جوهر العقل ، وتحصل المعارف وتكمل العلوم من غير واسطة سعي وطلب في التفكر والتأمل ، وهذا هو المسمى بالعلوم اللدنية [13] .

فالنفس الإنسانية جواهرها مختلفة بالماهية ، فقد تكون النفس نفسا مشرقة نورانية إلهية علوية ، قليلة التعلق بالجواذب البدنية والنوازع الجسمانية ، فهي شديدة الاستعداد لقبول التجليات القدسية والأنوار الإلهية ، ومن ثم تفيض عليها من عالم الغيب تلك الأنوار على سبيل الكمال والتمام ، وهذا هو المراد بالعلم اللدني ، وهو المراد من قوله تعالى : {آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا } .

أما النفس التي لم يصف جوهرها ولم يشرق عنصرها فهي النفس الناقصة البليدة ، التي لا يمكنها تحصيل المعارف والعلوم إلا بمتوسط بشري يحتال في تعليمه وتعلمه " [14] .

ومن جهة أخرى ينقسم العلم إلى شرعي ، وإلى عقلي ، والشرعي ينقسم إلى ما هو علمي وهو ما يسمى بالأصول ، وهو علم التوحيد وعلم التفسير وعلم الحديث ، وإلى ما هو عملي وهو علم الفروع ، وهو علم الفقه وعلم الأخلاق .

أما العقلي فهو العلم الرياضي والطبيعي ، والنظر في الموجود والصانع .. الخ . وأكثر العلوم العقلية الشرعية عند عارفها " [15] . {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ } [النور: 40] .

فالعلوم الشرعية هي المأخوذة بطريق التقليد عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وتحصل بالتعلم لكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .

أما العلوم العقلية فهي ما تقضي به غريزة العقل ، وغير كافية في سلامة القلب ، وهي إما ضرورية لا يدري من حصلت ولا كيف حصلت ، أو مكتسبة بالتعلم والاستدلال ، وهي دنيوية وأخروية " [16] .

ويقسم الغزالي العلوم التي ليست ضرورية وتحصل في القلب في بعض الأحيان إلى قسمين :

الأول هو : " الإلهام " وفيه يهجم العلم على القلب من حيث لايدري ، وبغير اكتساب وحيلة دليل ، وبغير تعلم . وهذا ينقسم إلى ما لايدري العبد كيف حصل ولا من أين حصل ، وإنما هو إلهام ونفث في الروع ؛ وهذا النوع من العلم يختص به الأصفياء والأولياء ؛ وإلى ما يطلع معه على السبب الذي منه استفاد ذلك العلم ، وهو مشاهدة الملك الملقى في القلب . وهذا العلم يسمى وحيا ويختص به الأنبياء عليهم السلام .

أما القسم الثاني من العلوم التي ليست ضرورية وتحصل في القلب في بعض الأحيان فهي تكتسب بطريق الاستدلال والتعلم ، وفيها يكون القلب مستعدا لأن تتجلى فيه حقيقة الحق في الأشياء كلها ، وإنما حيل بينه وبينها بأسباب معينة ؛ وهذا النوع من العلم يختص به العلماء [17] .

هذا ، ويقسم بعض الصوفية " العلم " إلى نوعين : ظاهر ، باطن .

أما العلم الظاهر ، فهو علم الشرائع التي يأتي بها الأنبياء إلى أممهم . وأما العلم الباطن ، فهو علم الحقيقة ، وهو الذي يعلمه الأولياء .

فابن عربي يفسر قول الخضر لموسى : {مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا}( الكهف : 68 ) بقوله : " أي أني على علم لم يحصل لك عن ذوق ، كما أنت على علم لا أعلمه أنا " [18] .

ويظهر من جميع ما أورده " ابن عربي " من قصة موسى مع الخضر ، والطريقة التي خرّج بها الآيات الواردة عنهما في سورة الكهف ، أنه يستعمل الإسمين رمزا لصاحبي نوعين من العلم : العلم الظاهر الذي يأتي به الأنبياء إلى أممهم ، وهو علم الشرائع ؛ والعلم الباطن الذي يعلمه الأولياء ، وهو علم الحقيقة .

ويقول " القاشاني " في شرحه لفصوص الحكم :" إعلم أن الخضر ، عليه السلام ، صورة اسم الله الباطن ، ومقامه مقام الروح ، وله الولاية والغيب وأسرار القدر ، وعلوم الهوية والأنية والعلوم اللدنية .. وأما موسى عليه السلام فهو صورة اسم الله الظاهر وله علوم الرسالة والنبوة والتشريع " [19] .

د) طريق تحصيل العلم :

العلم الإنساني – عند الغزالي – يحصل من طريقين :

أحدهما : التعلم الإنساني ، والثاني : التعلم الرباني .

أما التعلم الإنساني ، وهو طريق معروف يقر به جميع العقلاء ، فإنه يكون على وجهين :

أحدهما : من خارج ، وهو التحصيل بالتعلم ؛ وثانيهما : من داخل ، وهو الاشتغال بالتفكر ، والتفكر من الباطن بمنزلة التعلم من الظاهر . وبعض الناس يحصلون العلوم بالتعلم ، وبعضهم يحصلون بالتفكر ، ولا ريب أن التعلم يحتاج إلى التفكر .

فالتعلم أو التعليم الإنساني اكتسابي ، قوامه الفطرة الصحيحة ، والاستعداد للتلقي والتعلم والتعليم القائم على الكتاب والسنة من المربي السليم ذي القدوة الحسنة ، وهو طريق معروف معهود ، ومسلك محسوس" [20].

أما التعليم الرباني ، وهو الطريق الثاني ، فإنه على وجهين أو نوعين :

الأول : إلقاء الوحي ؛ فالنفس إذا أكملت ذاتها يزول عنها دمث الطبيعة ، ودرن الحرص والآمال الفانية ، فإنها تُقبل بوجهها على بارئها سبحانه ، وتتمثل بوجود مبدعها ، وتعتمد على إفادته وفيض نوره ، والله تعالى بحسن عنايته يقبل على تلك النفس إقبالا كليا ، فيحصل جميع العلوم لتلك النفس ، وينتقش فيها جميع الصور من غير تعلم وتفكر ؛ ومصداق هذا قوله تعالى لنبيه : صلى الله عليه وسلم {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ }( النساء : 113 ) .

فعلم الأنبياء أشرف مرتبة لأن حصوله على الله تعالى بلا واسطة ووسيلة ، وإنما هو الوضوء من سراج الغيب يقع على قلب صاف فارغ لطيف . ومن هنا فقد تكرر عند العقلاء أن العلم الغيبي المتولد عن الوحي أقوى وأكمل من العلوم المكتسبة ، وصار علم الوحي إرث الأنبياء وحق الرسل ، وأغلق الله سبحانه باب الوحي من عهد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم . وإنما كان علمه أكمل وأشرف وأقوى لأنه عن التعلم الرباني ، وما اشتغل قط بالتعلم والتعليم الإنساني . قال تعالى : {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى }(النجم :5) .

أما الوجه الثاني : فهو الإلهام ، وهو يحصل للنفس على قدر صفائها وقبولها وقوة استعدادها ، والإلهام أثر الوحي ؛ فإن الوحي هو تصريح الأمر الغيبي ، والإلهام هو تعريضه . والعلم الحاصل عن الوحي يسمى علما نبويا ، والذي يحصل عن الإلهام يسمى علما لدنيًا ؛ والعلم اللدني هو الذي لا واسطة في حصوله بين النفس وبين الباريء . فالوحي حلية الأنبياء ، والإلهام زينة الأولياء ، فالولي دون النبي ، فكذلك الإلهام دون الوحي [21] .

ويرى "الغزالي" أن العلم اللدني يكون لأهل النبوة والولاية ، كما كان للخضر عليه السلام ، حيث أخبر الله تعالى عنه فقال :  { وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} .

فإذا أراد الله سبحانه بعبده خيرا رفع الحجاب بين نفسه وبين النفس التي هي اللوح ، فتظهر فيها أسرار بعض المكنونات ، وانتقش فيها معاني تلك المكنونات ؛ وتعبر النفس عنها كما تشاء لمن يشاء من عباده .

وحقيقة الحكمة تنال من العلم اللدني ، ومالم يبلغ الإنسان هذه المرتبة لا يكون حكيما ، لأن الحكمة من مواهب الله تعالى : {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الألْبَابِ} (البقرة : 269) ؛ وذلك لأن الواصلين إلى مرتبة العلم اللدني مستغنون عن كثرة التحصيل وتعب التعليم ، فيتعلمون قليلا ويعلمون كثيرا .

ومما لا ريب فيه أن الوحي قد انقطع وباب الرسالة قد انسد ، أما باب الإلهام فلا ينسد "[22] .

ويتحدث " الغزالي " عن خطوات العلم اللدني ، فيقول : " العلم اللدني ، وهو سريان نور الإلهام ، يكون بعد التسوية ، كما قال الله تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} (الشمس : 7) ؛ وهذا الرجوع يكون بثلاثة وجوه :

الأول : تحصيل العلوم جميعها وأخذ الحظ الأوفر من أكثرها .

الثاني : الرياضة الصادقة ، والمراقبة الصحيحة ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى هذه الحقيقة فقال : { من عمل بما علم أورثه الله علم مالم يعلم } (أخرجه أبو نعيم في الحلية من حديث أنس وضعفه) .

والثالث : التفكر ؛ فإن النفس إذا تعلمت وارتاضت بالعلم ، ثم تتفكر في معلوماتها بشروط التفكر ينفتح عليها باب الغيب ، كالتاجر الذي يتصرف فيماله بشرط التصرف "السليم" ينفتح عليه أبواب الربح ، وإذا سلك طريق الخطأ يقع في مهالك الخسران . فالمتفكر إذا سلك سبيل الصواب يصير من ذوي الألباب ، وتنفتح روزنة (أي كوة أو طاقة صغيرة) من عالم الغيب في قلبه فيصير عالما كاملا عاقلا ملهما مؤيدا . [23] .

هـ) العلم اللدني أحد منازل الأولياء :

يرى " ابن عربي " ، في شرحه للمسائل الروحانية في كتاب ختم الأولياء أن للأولياء منازل ، وهذه المنازل على نوعين :

حسية ومعنوية . فمنازلهم الحسية في (الآخرة) الجنان ؛ ومنازلهم الحسية في الدنيا أحوالهم ، التي تنتج لهم خرق العوائد . فهذه منازلهم الحسية في الدارين .

وأما منازلهم المعنوية في المعارف فهي كثيرة ولكنها تنحصر في أربعة مقامات :

1- مقام العلم اللدني .
2- علم النور .
3- علم الجمع والتفرقة .
4- علم الكتابة الإلهية .

فأما العلم اللدني ، فمتعلقه الإلهيات وما يؤدي إلى تحصيلها من الرحمة الخاصة . وأما علم النور ، فظهر سلطانه في الملأ الأعلى ، قبل وجود آدم بآلاف السنين من أيام الرب . وأما علم الجمع والتفرقة فهو البحر المحيط الذي اللوح المحفوظ جزء منه [24] .

هكذا يتضح لنا المعنى الاصطلاحي لمفهوم " العلم اللدني " كما جاء عند المفسرين والصوفية وعلماء التصنيف ، وكيف يأتي ضمن أقسام العلم المختلفة ، وأنواعه المتعددة ، وطرق تحصيله ومعنى أن " العلم اللدني " أحد منازل الأولياء .

المصدر :


موسوعة التصوف الإسلامي / إصدار المجلس الأعلى للشئون الإسلامية – وزارة الأوقاف المصرية – جمهورية مصر العربية – 1430 هـ - 2009 م . 
مقالة بعنوان العلم اللدني ، إعداد ، أ .د / محفوظ عزام ، من صـ 580 : 589 . 


هوامش :

1- نشر مكتبة الجندي – مصر .
2- الفخر الرازي : التفسير الكبير ، دار إحياء التراث ، بيروت جـ 21 / 149 .
3- القنوجي : أبجد العلوم – الوشي المرقوم في بيان أحوال العلوم – دار الكتب العلمية – بيروت لبنان جـ 2 / 469 .
4- ابن عباس ، البيضاوي ، الخازن ، النسفي : كتاب مجموعة من التفاسير ، دار إحياء التراث العربي – بيروت جـ 1 / 123 .
5- القرطبي : الجامع لأحكام القرآن ، دار الريان للتراث جـ 6 / 4055 .
6- تفسير ابن كثير جـ 3 / 92 ، 93 ط الحلبي ، سورة الكهف .
7- الفخر الرازي : مفاتيح الغيب جـ 21 / 149 .
8- الصابوني "محمد عليّ" : صفوة التفاسير ، دار القرآن ، بيروت ، المجلد الثاني صـ 198-199 .
9- الغزالي : المنقذ من الضلال صـ 27 ، نقلا عن د/ عبد القادر محمود : الفلسفة الصوفية في الإسلام صـ 229 .
10- الغزالي : الرسالة اللدنية صـ 122 ، ضمن القصور العوالي من رسائل الإمام الغزالي .
11- السابق ، صـ 98 – 99 .
12- الغزالي : الرسالة اللدنية ، صـ 100 .
13- الفخر الرازي : التفسير الكبير جـ 21 / 149 – 150 .
14- المرجع السابق .
15- الغزالي : الرسالة اللدنية ، صـ 106 .
16- الغزالي : إحياء علوم الدين ، جـ 3 / 18- 19 .
17- الغزالي : إحياء علوم الدين ، جـ 3 / 20 .
18- ابن عربي : فصوص الحكم ، جـ 1 / 206 .
19- عبد الرازق القاشاني : شرح فصوص الحكم لابن عربي ، صـ 412 ، نقلا عن تعليقات د/ أبو العلى عفيفي على الفصل الخامس والعشرين من فصوص الحكم ، جـ 2 / 305 .
20- الغزالي : الرسالة اللدنية ، صـ 112 ، 113 .
21- الغزالي : الرسالة اللدنية ، صـ 114 ، 115 ، 116 .
22- المرجع السابق صـ 117 ، 118 .
23 – المرجع السابق صـ 122 .
24 – الحكيم الترمذي : كتاب ختم الأولياء ، تحقيق عثمان يحيى ، المطبعة الكاثوليكية ، بيروت ، صـ 142 ، 143 .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق