محب الخطيب.. من القنصلية البريطانية إلى تأسيس السلفية
حظى الشيخ محب الدين الخطيب بتقدير كبير من جانب عدد من فصائل التيار الإسلامي، فهو واحد ممن تتلمذ على يدهم حسن البنا، ونال منه عناية خاصة لفترة ليست بالقصيرة، كما أنه مؤسس المكتبة السلفية التي تولت طباعة كتب ابن تيمية وغيره ممن يعتبرون لدى السلفيين أئمة ومجددين..
وليس ثمة عجب أن يجتمع
كثيرة هي المنعطفات التي صاحبت الشيخ طوال عمره المديد.. بدأت مع دراسته الأولى في مدارس دمشق، وتتلمذه على يد الشيخ طاهر الجزائري، والشيخ النويلاتي..
ثم انتقاله إلى بيروت ليدرس بها السنة الأخيرة من دراسته الثانوية هربا من اضطهاد لحقه بمدرسة مكتب عنبر المدرسة الثانوية الوحيدة بالشام آنذاك، ثم انتقاله إلى الأستانة طالبا في كليتي الآداب والحقوق، وتأسيسه لجمعية النهضة العربية، والتي تكونت من مجموعة من الطلاب العرب الغيورين على لغتهم وثقافتهم، والمناهضين لسياسة التتريك المتبعة في عهد السلطان عبد الحميد..
والواضح أن الجمعية كانت قومية صرفة، وليست دينية يجتمع أفرادها في غرفهم وفي المقاهي، ويستمتعون بالاستماع إلى الغناء والموسيقى العربية!
من الأمور العجيبة -أيضا- أن يكون لهذا الرجل تلك المكانة عند السلفيين، وهو الحليق الذي كان يرتدي “الطربوش” والملابس الإفرنجية- يعرف الكل مدى تشددهم في تلك الأمور- وربما كانت تلك المكانة بسبب طباعته لكتب ابن تيمية في المكتبة السلفية التي أنشأها في القاهرة، أو بسبب تعليقه على كتاب العواصم من القواصم لابن العربي المالكي، وفيه ردود على من تكلموا في بعض أصحاب النبي، المريب في هذا الأمر-أيضا- أن الشيخ محب الدين اجتزأ من الكتاب آخره ليعلق عليه، وترك البقية وفيها الحديث عن المجسمة والمشبهة والمعطلة..
وقد ألف الشيخ كتابا في عقائد الشيعة أسماه الخطوط العريضة على إثر انقلابه على البنا الذي سعى هو والشيخ القمي للتقريب بين السنة والشيعة، وأقاما دارا لذلك بحي الزمالك بالقاهرة أسمياها دار التقريب، وقد شن الخطيب في مجلة الفتح التي كان يرأس تحريرها حملة على الدار والقمي والبنا، وأطلق على الدار اسم دار التخريب، ومن عجب أن يكون الشيخ حادا قاطعا في رفض التقريب، وهو الذي جمع المتناقضات إلى حد يحير العقل!
ومن أعاجيب الشيخ أنه عندما عاد إلى دمشق بعد نجاحه في السنة الثالثة بكلية الحقوق، وكان قد ترك دراسة الآداب لعدم قدرته على التوفيق بين الدراستين- التقى في أحد الاجتماعات بفارس الخوري الذي كان صديقا لسليم الجزائري رفيق الشيخ، وكان يبحث عن شاب ذي مواصفات خاصة؛ فضّل أن يكون جزائريا؛ ليعمل بالقنصلية البريطانية بالحديدة غرب اليمن، وإذا به يعرض نفسه على الرجل، وهو من هو، فيعجب صديقه سليم الجزائري الذي رأى الوظيفة أقل من مكانة الخطيب الذي ساق أسبابا واهية، منها نصيحة زملاء الدراسة له بالابتعاد عن الأستانة لمدة عام على الأقل حتى تهدأ عنه عين الرقباء، وهذا تناقض خطير يضاف إلى عديد من التناقضات حفلت بها مواقف الرجل الذي يقبل ابن تيمية جملة، ويرى في الإمام محمد عبده مجددا، كما أنَّه السلفي الذي لا يرى بأسا في الغناء والموسيقى والفنون سيما المسرح والسينما، وهو داعية القومية العربية الذي ينضم لجمعية الشورى العثمانية استجابة لدعوة أستاذه محمد رشيد رضا، وكانت تهدف إلى السعي إلى إصلاح الدولة العثمانية بدعوة السلطان إلى الشورى ونبذ الاستبداد، ثم هو داعية الحرية والاستقلال الموظف بالقنصلية البريطانية!
وفي أواخر عام 1914ومع بدايات الحرب العالمية الأولى يصل الخطيب إلى البصرة موفدا من جمعية الجامعة العربية للقاء السيد طالب النقيب أحد منسقي الحركة العربية، وكان مزمعا أن يغادر الخطيب البصرة بعد ذلك للقاء ابن سعود، بينما يتوجه آخرون للقاء الإمام يحيى في اليمن والإدريس في عسير بهدف توحيد كلمة العرب بشأن الموقف الذي سيتأسس بعد انقضاء الحرب التي أصبحت الدولة العثمانية طرفا فيه، ويتم اعتقال الخطيب في البصرة، وتبذل مساعي للإفراج عنه، وتكشف وثيقة مقدمة للسير “مكماهون” عن أنَّه كان موفدا في مهمة خاصة لمقابلة موظفين بريطانيين سياسيين، وأن سفره بتصريح من قائد القوات البريطانية في مصر، وكان تقديم الوثيقة للسير يهدف إلى تدخله للإفراج عن الخطيب.
وقد قدم الخطيب العديد من الالتماسات للإفراج عنه منها ما تضمن قوله” …أنَّ دولة بريطانيا العظمى عزمت عزما نهائيا على مؤازرة العرب فيما يطلبون من تحسين أحوالهم، وجمع شملهم وخلاصهم من الإدارة التركية…”.
وعندما اندلعت أحداث الثورة العربية بقيادة الشريف حسين في يونيو1916، بدعم مباشر من الإنجليز وبدور واضح لضابط المخابرات البريطاني “كولونيل لورانس” يسارع الخطيب للالتحاق بالشريف حسين، ليؤسس مطبعة أميرية لحكومة الحجاز؛ وليصدر صحيفة “القبلة” لتكون الجريدة الرسمية للحكومة، وكان الهجوم في الصحيفة مركزا على الأتراك الطورانيين الذين صار إسقاط دولتهم أمرا لا مفر منه.
ومن الغريب أيضا أن الخطيب أدان موقف الحسين من وزير الحربية الحجازية آنذاك عزيز المصري، الذي اختلف مع الشريف وغادر إلى القاهرة، وكتب محب الدين عن إخلاص المصري ورغبته في العمل على إنجاح الثورة ودحر الترك، بينما في موضع آخر يذكر أنه قال للحسين أنَّ رحيل المصري سيكون مفيدا على نحو ما!
وعندما يسقط الشريف حسين عن عرشه، ويعود الخطيب إلى القاهرة؛ ليستعرض بعد ذلك في مذكراته ثلاث سنوات قضاها إلى جوار الملك مبديا عديدا من التحفظات على تصرفاته، وقراراته التي أدت إلى سقوطه في النهاية، مع العلم أنَّه كان منه بمثابة المستشار المقرب.
وبعد دخول الجيش العربي إلى دمشق عام 1919، يعين الخطيب مديرا للمطبوعات، ويصدر صحيفة العاصمة في مارس1920، وبعد اتفاق فيصل “كلمنصو” تعم الاضطرابات الشام، ولم تفلح محاولات الخطيب في توحيد الصف في مواجهة الفرنسيين؛ فاضطر إلى المغادرة متنكرا في زي تاجر جمال، إلى طبرية ثم صفد حتى وصل يافا ومنها استقل القطار إلى القاهرة بعد أن استخرج جواز سفر باسم مستعار.
ويعود الخطيب إلى القاهرة ليعمل محررا بالأهرام، ويصدر صحيفتي الفتح والزهراء ويرأس تحريرهما، كما رأس تحرير مجلة الإخوان، ويستمر في العمل بالكتابة والتأليف، كما في السياسة، وتمضي به مسيرة الحياة عبر مواقف لا تخلو من الغموض والاضطراب.. إلى أن يلقى ربه نهاية ديسمبر من العام1969، إثر عملية جراحية غير موفقة عن عمر ناهز الثالثة والثمانين.
إن حياة الشيخ الحافلة ومواقفه وأدواره تحتاج إلى كثير من البحث والدراسة علنا نصل إلى حقيقة ما التبس علينا من آراء الشيخ، وأفعاله.. خاصة وأن إسهامه وكفاحه كان في مرحلة من أهم المراحل التي مرت بها الأمة العربية والإسلامية، مازالت آثارها حاضرة بقوة في واقعنا، و ربما إلى أمد غير منظور.
المصدر :
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق