بحث

السبت، 19 سبتمبر 2015

التصوف وإشكالية مردودة.

التصوف أمر محدث عرفته الأمة في مراحل متقدمة من تاريخها من بعد القرون الثلاثة الفاضلة.
تلك إشكالية أثارها بعضهم بلا بحث ولاروية في خضم الحرب الدائرة على الأمة وثوابتها.
وكأن ذلك أو هكذا يتوهمون بأن في تأصيلهم لتلك المسألة وجعلها من المسلمات مغمز ومطعن في
التصوف كعلم واتجاه وفي الصوفية كتطبيق عملي له.
حتى لو سلمنا لهؤلاء بأوهامهم تلك على خلاف الواقع الحاصل ؛ فإنه فات هؤلاء بأن العبرة ليست بمتى كانت البداية ولكن العبرة بأثر ومآثر ذلك الحادث وهذا الجديد ، والعبرة كذلك بأصل وتأصيل ذلك من عدمه.
فالخوارجية والخروج كمذهب واتجاه والخوارج كثمرة وتطبيق عملي ظهرت من عصر النبوة ، فهل يحمد ذلك لهم ؟!!
بالقطع لا وهذا ما لا يقول به عاقل.
وعلى النقيض من ذلك ظهرت علوم كعلم الرسم وأصول الفقه ومصطلح الحديث بمصطلحاتها ومسمياتها التي لم تعهد قبل ذلك ولكن ظهورها وإن كان متأخراً ولم يعهد في العصر الأول إلا أن أحداً لم يتخذ من ذلك مغمزاً ولامطعناً في تلك العلوم ، بل الجميع يعلم منزلتها بين أبناء الأمة.
وكذلك التصوف فإنه من هذا الباب ويزيد عليه بأنه أقدم منها أصلاً ووجوداً ومسماً واصطلاحاً.
فالتصوف هو سنة الله تعالى في خلقه من لدن آدم عليه السلام إلى أن تقوم الساعة وكان أهله يسمون في الأمم الماضية : بالربانيين والقسيسين والرهبان والأحبار.[1]
فالتصوف والزهادة قديمة قدم الإنسان.
والتاريخ يحدثنا عن بني صوفة وهم جماعة من العرب كانوا يتزهدون ويتقللون من الدنيا.[2]
وصوفة هذا أبو حي من مضر وهو ابن مُرّ بن أُدِّ بن طابخةَ بن إلياسَ بن مُضَرَ، كانوا يخدمون الكعبة في الجاهلية ويجيزون الحاج أي يفيضون بهم.[3]
إذن فالزهد في الدنيا والتقلل منها والإقبال على تعظيم شعائر الله له أصل أصيل في المسيرة الإنسانية عبر تاريخها.
وقد ذَكر الكتاب الذي جُمع فيه أخبار مكة عن محمد بن إسحاق بن يسار، وعن غيره يذكر فيه حديثاً:أنه قبل الإسلام قد خلت مكة في وقت من الأوقات، حتى كان لا يطوف بالبيت أحد، وكان يجيء من بلد بعيد رجل صوفي فيطوف بالبيت وينصرف، فإن صح ذلك فإنه يدل على أنه قبل الإسلام كان يعرف هذا الاسم، وكان يُنسب إليه أهل الفضل والصلاح، والله أعلم.[4]
إذن فالتصوف والصوفية من قديم قد صارا علم على أهل الفضل والخير والصلاح والقيام بحقوق الله عز وجل وخدمة دينه .
فإن سأل سائل فقال: لم نسمع بذكر الصوفية في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم أجمعين، ولا فيمن كان بعدهم، ولا نعرف إلا العبّاد والزُّهاد والسيَّاحين والفقراء، وما قيل لأحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: صوفي، فنقول وبالله التوفيق:
الصحبة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لها حرمة، وتخصيص من شمله ذلك، فلا يجوز أن يعلق عليه اسم على أنه أشرف من الصحبة، وذلك لشرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وحرمته، ألا ترى أنهم أئمة الزهاد والعباد والمتوكلين والفقراء والراضين والصابرين والمختبين، وغير ذلك، وما نالوا جميع ما نالوا إلا ببركة الصحبة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما نسبوا إلى الصحبة والتي هي أجل الأحوال استحال أن يفضلوا بفضيلة غير الصحبة التي هي أجل الأحوال وبالله التوفيق.
وأما قول القائل: إنه اسم محدث أحدثه البغداديون، فمحال، لأن في وقت الحسن البصري رحمه الله كان يعرف هذا الاسم، وكان الحسن قد أدرك جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم، وقد رُوي عنه أنه قال:
رأيت صوفياً في الطواف فأعطيته شيئاً فلم يأخذه وقال: معي أربعة دوانيق يكفيني ما معي.
وروي عن سفيان الثوري رحمه الله أنه قال: لولا أبو هاشم الصوفي ما عرفت دقيق الرياء.[5]
ولذا كما سبق فإننا نجد ذكر التصوف والصوفية اسماً واصطلاحاً على أهل الفضل والعمل والعبادة والاجتهاد والاقتداء في السلوك لله عز وجل قد أخذ في الظهور في الكتابات والمؤلفات التراثية وعلى ألسنة أهل العلم منذ القرن الأول الهجري ويتأيد ذلك أيضاً بما يلي :
روي عن مساور الوراق [6] أنه قال :
تصوّف كي يقال له أمين ... وما معنى التّصوّف والأمانه
ولم يرد الإله به ولكن ... أراد به الطريق إلى الخيانه [7]
قال ابن الجوزي:[هذا الاسم ظهر للقوم قبل سنة مائتين.]اهـ [8]
قال الذهبي :[وكان للحسن مجلس خاص في منزله، لا يكاد يتكلم فيه إلا في معاني الزهد والنسك وعلوم الباطن، فإن سأله إنسان غيرها تبرم به، وقال:إنما خلونا مع إخواننا نتذاكر، فأما حلقته في المسجد فكان يمر فيها الحديث، والفقه، وعلوم القرآن، واللغة، وسائر العلوم، وكان ربما يسأل عن التصوف فيجيب، وكان منهم من يصحبه للحديث، ومنهم من يصحبه للقرآن والبيان، ومنهم من يصحبه للبلاغة ، ومنهم من يصحبه للإخلاص وعلم الخصوص.]اهـ[9]
وقال ابن خلدون في مقدمته : الفصل السابع عشر في علم التصوف .[هذا العلم من العلوم الشرعية الحادثة في الملة - المقصود ههنا حدوث الاسم لا الأصل كحدوث أسماء بقية العلوم كعلم الأصول وعلم الفقه وعلم الحديث - ، وأصله أن طريقة هؤلاء القوم، لم تزل عند سلف الأمة وكبارها من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم، طريقة الحق والهداية و أصلها العكوف على العبادة والانقطاع إلى الله تعالى، والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها، والزهد فيما يقبل عليه الجمهور من لذة ومال وجاه، والانفراد عن الخلق في الخلوة للعبادة، وكان ذلك عاماً في الصحابة والسلف. فلما فشا الإقبال على الدنيا في القرن الثاني وما بعده، وجنح الناس إلى مخالطة الدنيا، اختص المقبلون على العبادة باسم الصوفية والمتصوفة.]اهـ [10]
- ابن تيمية يقر بما سبق ولكن كعادته يضمن ويغلف هذا الإقرار بمرواغة وتلاعب بعقول أتباعه.
قال ابن تيمية في مجموع فتاويه :[أما لفظ "الصوفية" فإنه لم يكن مشهوراً في القرون الثلاثة وإنما اشتهر التكلم به بعد ذلك وقد نقل التكلم به عن غير واحد من الأئمة والشيوخ : كالإمام أحمد بن حنبل وأبي سليمان الداراني وغيرهما . وقد روي عن سفيان الثوري أنه تكلم به وبعضهم يذكر ذلك عن الحسن البصري.] اهـ [11]
قلت وبالله التوفيق :
لله درّ من قال : من سيما أهل البدع التناقض .
فها هو يقرر أن :
الإمام سفيان الثوري وقد توفي في عام 161هـ ، والإمام أبو سليمان الداراني وقد توفي في عام 215هـ ، والإمام أحمد ابن حنبل وقد توفي في عام 241 هـ وغيرهم ، بل ومن قبلهم سيدنا التابعي الجليل الحسن البصري وقد توفي في عام 110هـ وعمره تسع وثمانون سنة قد تكلموا في التصوف أو لفظ الصوفية على سياق كلامه .
ثم نراه يُصَدّر كلامه قبل هذه الإقرارات بأن : [لفظ "الصوفية" لم يكن مشهوراً في القرون الثلاثة]!!!!!!!!!
يعني بعد كلام كل هؤلاء بدايةً من القرن الأول الهجري فالثاني فالثالث عن التصوف والصوفية إلا أنه ويالعجب فعند هذا المبتدع لم يكن لفظ الصوفية مشهوراً في القرون الثلاثة !!!!!!
طبعاً حتى يتمشدق أذنابه وأذياله بعد ذلك بأن التصوف بدعة لم ترد عن السلف .
والعيب ليس على أمثال هذا المبتدع بقدر ما هو على من يسمح له ولأمثاله من أهل البدع والضلال بالتلاعب بعقولهم .
هامش :
[1] فيض الوهاب في بيان أهل الحق ومن ضل عن الصواب(1/57 ، 58) للإمام عبد ربه بن سليمان الشهير بالقليوبي.
[2] الأنساب للسمعاني (8/346).
[3] لسان العرب لابن منظور(9/199).
[4] اللمع في التصوف للإمام السراج الطوسي(صـ27).
[5] المرجع السابق(صـ27).
[6]مُسَاوِر الوَرَّاق الكوفي، يقال: إنه أخو سيار أبي الحكم لأمه، ويقال اسم أبيه سوار بن عبدالحميد. روى عن سيار أبي الحكم وشعيب بن يسار مولى ابن عباس وجعفر بن عمرو بن حريث وأبي حصين عثمان بن عاصم الأسدي. روى عنه سفيان بن عيينة ووكيع بن الجراح وحماد بن أسامة. كان يقول الشعر، وثقه ابن معين وابن حبان. قال سفيان بن عيينة: وكان مساور -يعني الوراق- رجلا صالحاً لا بأس به .
قال ابن حجر: صدوق من السابعة. وذكره أسلم بن سهل الواسطي في تاريخ واسط في أهل القرن الثاني .
قال الذهبي : وله حديث واحد في الكتب، وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب وعليه عمامة سوداء ، وأشار إلى أنه ممن توفي بين عامي (141 ، 150) هـ .
انظر ترجمته في : المعرفة والتاريخ (2/686) وثقات ابن حبان (7/502) وتهذيب الكمال (27/425-427) وتاريخ الإسلام (حوادث141-160/3 / 979) وتهذيب التهذيب (10/103) والتقريب (2/174) .
[7]العقد الفريد لابن عبد ربه (3 / 170) .
[8] تلبيس إبليس لابن الجوزي(صـ159).
[9] تاريخ الإسلام (7/59) ، سير أعلام النبلاء (4/579).
[10] مقدمة ابن خلدون(صـ328).
[11] مجموع الفتاوى لابن تيمية (11/ 5).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق