التحول في المنطقة
لم يكن يفترض في حرب العراق أن تكون مستنقعاً باهظ التكاليف. بل كان المقصود منها أن تكون الخطوة الأولى في
خطة أكبر لإعادة ترتيب الشرق الأوسط.
وكانت هذه الاستراتيجية الطموحة تخلياً صارخاً عن السياسة السابقة للولايات المتحدة، وكان اللوبي و”اسرائيل” قوتين دافعتين حاسمتين وراء هذا التحول.
وقد تأكدت هذه النقطة بوضوح بعد بدء حرب العراق من خلال خبر نشر في الصفحة الأولى من صحيفة “وول ستريت جورنال”. فالعنوان الرئيسي يوضح القصة كاملة، حيث جاء فيه “حلم الرئيس: لا تغيير نظام وحسب، بل تغيير منطقة: إيجاد منطقة ديمقراطية موالية للولايات المتحدة هدف له جذور عند “اسرائيل” وعند المحافظين الجدد”.
وكانت القوى الموالية ل “اسرائيل” مهتمة منذ وقت طويل بتوريط الجيش الأمريكي بصورة أكثر مباشرة في الشرق الأوسط، بحيث يستطيع المساعدة في حماية “اسرائيل”.
ولكنها لم تحرز سوى نجاح محدد على هذه الجبهة خلال الحرب الباردة، لأن أمريكا لعبت دور “البهلوان المتوازن بعيداً عن الشاطئ” في المنطقة، حيث ظلت معظم القوات الأمريكية المخصصة للشرق الأوسط، مثل قوة الانتشار السريع “عند الأفق” وبعيداً عن طريق الخطر.
وحافظت واشنطن على توازن مفضل للقوة بضرب القوى المحلية بعضها ببعض، وهذا هو سبب دعم إدارة ريجان لصدام ضد إيران الثورية أثناء الحرب الإيرانية العراقية (1980 1988).
وسنة ،2002 عندما أصبح غزو العراق، قضية تحظى بأولوية عليا، كان إجراء التحول في المنطقة قد غدا عقيدة في أوساط المحافظين الجدد.
ويصف تشارلز كروثامر هذه الخطة الكبرى بأنها وليدة أفكار ناتاني شارانسكي، السياسي “الاسرائيلي” الذي راقت كتاباته الرئيس بوش. ولكن شارانسكي لم يكن صوتاً منفرداً في “اسرائيل”.
بل إن “الاسرائيليين” عبر الطيف السياسي كانوا يعتقدون أن إطاحة صدام سوف تغير الشرق الأوسط لمصلحة “اسرائيل”. وقد كتب أدولف بين في صحيفة “هآرتس” (17 فبراير/ شباط 2003) “إن كبار ضباط الجيش “الاسرائيلي” والمقربين من رئيس الوزراء أرييل شارون، مثل مستشار الأمن القومي افرايم هاليفي، يرسمون صورة زاهية للمستقبل الرائع الذي ينتظر “اسرائيل” بعد الحرب.
وهم يتصورون أثراً يشبه حركة أحجار الدومينو، بسقوط صدام حسين، ومن بعده أعداء “اسرائيل” الآخرون.. ومع هؤلاء الزعماء سيختفي الإرهاب، وأسلحة الدمار الشامل”.
وباختصار، فإن زعماء “اسرائيل”، والمحافظين الجدد، وإدارة بوش، كانوا جميعاً يرون الحرب مع العراق الخطوة الأولى في حملة طموحة لإعادة تشكيل الشرق الأوسط. وفي أول فيض للنصر حولوا أنظارهم شطر خصوم “اسرائيل” الآخرين في المنطقة.
أنصار الكيان يصوّبون باتجاه سوريا وإيران
لم يبدأ قادة “اسرائيل” بالضغط على إدارة بوش لدفعها لتصويب فوهات مدافعها باتجاه سوريا قبل مارس/آذار من عام ،2003 وذلك لأنهم كانوا مستغرقين إلى الحد الأقصى في جهود التحريض لشن الحرب على العراق.
وما إن سقطت بغداد في منتصف أبريل/نيسان حتى بدأ شارون وجنرالاته ورجالاته يحثون واشنطن على استهداف دمشق.
وعلى سبيل المثال أجرى شارون ووزير حربه شاؤول موفاز مقابلات قصد منها تسليط وهج إعلامي مبهر في 16 أبريل في العديد من الصحف “الاسرائيلية”.
ففي جريدة “يديعوت أحرنوت” طالب شارون الولايات المتحدة بأن تمارس ضغطاً “شديداً” على سوريا. وصرّح موفاز لمعاريف قائلاً: “لدينا لائحة طويلة من المسائل التي نفكر بأن نطالب السوريين بها، ومن المناسب أن نقوم بهذا من خلال الأمريكيين.
وتحدّث مستشار شارون لشؤون الأمن القومي إيفرايم هالفي إلى جمهور احتشد في قاعة المحاضرات في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، فأخبرهم بأن من المهم الآن بالنسبة للولايات المتحدة أن تتعامل بحزم وخشونة مع سوريا، وأوردت ال “واشنطن بوست” أن “اسرائيل” كانت “تغذي الحملة” ضد سوريا بإمداد أجهزة الاستخبارات الأمريكية بتقارير عمّا يقوم به الرئيس السوري بشار الأسد من أعمال.
وكان بعض من أبرز أعضاء اللوبي قد قدّموا الحجج ذاتها وجادلوا بالطريقة نفسها بعد سقوط بغداد. وأعلن وولفويتز أنه “يجب إحداث تغيير للنظام في سوريا”.
وأخبر ريتشارد بيرل أحد الصحافيين قائلاً: “يمكننا أن نبث رسالة قصيرة، رسالة تتألف من كلمتين (إلى الأنظمة المعادية الأخرى في الشرق الأوسط): “أنتم اللاحقون””.
وفي أوائل ابريل نشر معهد واشنطن لسياسة الشرق الأوسط تقريراً يمثل رأي الحزبين (الجمهوري والديمقراطي) بدأ بعبارة أن سوريا “يجب ألا يفوتها مغزى الرسالة، ألا وهي أن الدول التي تنتهج سياسة صدام حسين الرعناء، وتسلك طريق التحدي، يمكن أن ينتهي بها المطاف إلى مواجهة ما واجهه من مصير”.
وفي الخامس عشر من أبريل كتب كلين هالفي مقالاً في صحيفة “لوس أنجلوس تايمز” تحت عنوان: “في الخطوة التالية صعّدوا الضغوط على سوريا”.
هذا في حين كتب زيف تشافيتس مقالاً في اليوم نفسه لجريدة “نيويورك ديلي نيوز” بعنوان “سوريا صديقة الإرهاب تحتاج إلى تغيير أيضاً”. ولئلا يزايد عليه أحد، سارع لورنس كابلان فكتب في صحيفة “نيو ريبيلك” بتاريخ 21 أبريل ليقول: إن الرئيس السوري بشار يمثل تهديداً خطيراً لأمريكا.
وعودة أخرى إلى الكابيتول هيل حيث نفض عضو الكونجرس، نائب نيويورك إيليوت اينجيل الغبار عن قانون محاسبة سوريا واسترداد السيادة اللبنانية وأعاد تقديمه يوم 12 أبريل، وتوعد هذا القانون سوريا بفرض عقوبات إن هي لم تنسحب من لبنان، وتتخلى عن أسلحة الدمار الشامل، وتوقف دعمها للإرهاب، كما طالب سوريا ولبنان باتخاذ خطوات عملية ملموسة لإبرام سلام مع “اسرائيل”.
وأفاض اللوبي تبريكاته على هذا التشريع، وتبناه بقوة، لا سيما إيباك، و”أطرت له الأطر” حسب “جويش تلجراف” اليهودية “من قبل بعض من أخلص أصدقاء “اسرائيل” في الكونجرس”.
كان هذا التشريع مهملاً إلى حد ما لبرهة من الوقت، ويعزى السبب الأكبر في هذا الغض إلى أن إدارة بوش لم تكن شديدة الحماس لطرحه وتبنيه بقوة، غير أنه جرى تمرير هذا التشريع المناهض لسوريا بأغلبية ساحقة (398 صوتاً إلى 4) في مجلس النواب وبنسبة 89 إلى 4 في مجلس الشيوخ، وصدق بوش عليه ليصبح قانوناً في 12 ديسمبر/كانون الأول من عام 2003.
ومع ذلك كانت إدارة بوش لا تزال منقسمة بشأن الحكمة من استهداف سوريا في هذا الوقت بالذات، ومع أن المحافظين الجدد كانوا يتوقون في الحقيقة إلى تأجيج صراع مع دمشق، فإن وكالة الاستخبارات المركزية ووزارة الخارجية كانتا تعارضان هذا التوجه. وحتى بعدما وقع بوش على القانون الجديد أكد أنه سيمضي ببطء وتدرّج في تطبيقه.
ويمكن فهم ازدواجية بوش وتأرجحه حيال هذه القضية، ففي المقام الأول، دأبت الحكومة السورية على إمداد الولايات المتحدة بدفق ضخم من المعلومات الاستخباراتية المهمة عن تنظيم القاعدة منذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، كما أنها حذرت واشنطن أيضاً في الوقت المناسب بشأن هجوم إرهابي كانت القاعدة قد خططت لشنه في الخليج.
وعلاوة على ذلك أمّنت سوريا لمحققي الاستجواب في ال “سي آي إيه” سبل الوصول إلى محمد الزمار، الذي راجت مزاعم بأنه هو من قام بتجنيد العناصر التي شنت هجمات 11/9 واختطفت الطائرات، والقبض عليه، فاستهداف نظام بشار الأسد من شأنه أن يهدد حلقات الارتباط الثمينة هذه ويقوض جهود الحرب الكبرى على الإرهاب.
وفي المقام الثاني، لم تكن علاقات دمشق سيئة مع واشنطن قبل الحرب على العراق (فعلى سبيل المثال كان قد بلغ بسوريا التعاون أن صوتت لمصلحة القرار 1441 في مجلس الأمن)، كما لم تكن سوريا تمثل تهديداً للولايات المتحدة بحال من الأحوال، فالتشدد تجاه سوريا واستخدام الخشونة في التعامل معها سوف يظهر الولايات المتحدة بمظهر “البلطجي” أو “القبضاي” المتغطرس الذي لا يروي ظمأه إلا إشباع الدول العربية ضرباً وإذلالاً.
وأخيراً فإن الزج بسوريا في لائحة الدول التي تستهدفها أمريكا من شأنه أن يوفر لسوريا حافزاً قوياً وذريعة لإحداث اضطراب وقلاقل في العراق، وحتى لو ارتأى المرء الضغط على سوريا فثمة ألف سبيل بديل لذلك. كما أن من الحكمة قبل التصعيد مع دمشق إنجاز المهمة في العراق أولاً.
ومع ذلك أصر الكونجرس على تصعيد الضغوط على سوريا، وكان الدافع الأكبر وراء ذلك هو الاستجابة لضغط مارسه المسؤولون “الاسرائيليون” والجماعات الموالية ل “اسرائيل” مثل “إيباك”.
ولو لم يكن هناك لوبي “اسرائيلي” ضاغط شديد الجبروت والتأثير لما كان ثمّة قانون لمحاسبة سوريا، ولكانت سياسة الولايات المتحدة تجاه دمشق أكثر استجابة على الأرجح وأعظم خدمة للمصالح القومية الأمريكية.
استهداف إيران
يميل “الاسرائيليون” إلى وصف أي تهديد بأشد العبارات وأقسى الألفاظ، لكن إيران ينظر إليها على نطاق واسع على أنها أخطر أعدائهم على الإطلاق، وما ذلك إلا لأنها أرجح الخصوم كفّة في احتمالات حيازة السلاح النووي حالياً.
وفي حقيقة الأمر فإن “الاسرائيليين” كلهم يرى في أي بلد إسلامي في الشرق الأوسط يحوز أسلحة نووية تهديداً مصيرياً داهماً.
وكما كان وزير الحرب “الاسرائيلي” بنيامين بن أليعازر قد علّق قبل شهر واحد من غزو العراق فإن “العراق مشكلة.. لكنكم ينبغي أن تفهموا هذه النقطة، أعني أنكم لو سألتموني اليوم فإيران أخطر من العراق”.
وكان شارون قد بدأ يدفع الولايات المتحدة ويضغط عليها علانية لتجابه إيران في نوفمبر/تشرين الثاني من عام ،2002 في مقابلة مع “التايمز” اللندنية أريد لها أن تحظى بوهج إعلامي كبير.
فبعدما وصم إيران بأنها “ينبوع الإرهاب في العالم” وأنها مصممة على امتلاك السلاح النووي، أعلن أنه يجب على إدارة بوش أن تستخدم القبضة الحديدة ضد إيران “في اليوم التالي” لغزوها العراق. وفي أواخر أبريل من عام ،2003 أوردت صحيفة “هاآرتس” في تقرير لها أن السفير “الاسرائيلي” في واشنطن صار يدعو اليوم إلى تغيير النظام في إيران.
وعبّر السفير عن وجهة نظره في أن الإطاحة بصدام لم تكن “كافية”. وحسب كلماته فإن أمريكا “ينبغي عليها أن تمضي قدماً وتتابع، فما زالت هناك أخطار جسام تحدق بنا من صوب سوريا، وأعظم منها، من جهة إيران”.
كما لم يهدر المحافظون الجدد لحظة واحدة في السعي لاختلاق الذرائع وتلفيق الأمور كي يبنوا عليها قضية تغيير النظام في طهران. في السادس من مايو/أيار احتضن معهد المشروع الأمريكي مؤتمراً حول إيران استغرق يوماً كاملاً وشاركته في رعاية المؤتمر المنظمة المناصرة ل “اسرائيل”، “مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات” ومعهد هدسون.
وكان المتحدثون كلهم جميعاً موالين ل “اسرائيل” يناصرونها أشدّ المناصرة، ودعا كثير منهم الولايات المتحدة إلى استبدال النظام الإيراني بديمقراطية. وكما هو معهود، كان هناك سيل عرم من المقالات التي دبجها محافظون جدد بارزون انغمسوا في مشاغل تهيئة السبل لاستهداف إيران، فعلى سبيل المثال، كتب وليم كريستول في الويكلي ستاندرد يوم 12 مايو/أيار أن “تحرير العراق كان المعركة العظمى الأولى على درب رسم ملامح مستقبل الشرق الأوسط..
إلا أن المعركة العظيمة التالية ونأمل أن لا تكون عسكرية، ستكون المعركة ضد إيران”.
واستجابت إدارة بوش لضغوط اللوبي بأن وصلت الليل بالنهار وبذلت قصارى جهدها لإجهاض البرنامج النووي الإيراني.
لكن واشنطن لم تحرز نجاحاً يذكر، وتبدو إيران مصممة على الحصول على ترسانة نووية.
ونتيجة لذلك صعّد اللوبي ضغوطه على حكومة الولايات المتحدة مسخراً كلّ ما في جعبته من استراتيجيات وألاعيب، وتنهال علينا اليوم الافتتاحيات والمقالات التي تحذّر حالياً من الأخطار الوشيكة التي تحدث بالعالم إذا امتلكت إيران السلاح النووي، وتنذر المجتمع الدولي وتخوّفه من خطورة أي تغاضٍ أو استرضاء أو مهادنة لنظام “إرهابي”، وتلمّح بصورة سوداوية قاتمة إلى أنه ينبغي التحرك للقيام بعمل استباقي وقائي في حال أخفقت الدبلوماسية، كما يدأب اللوبي على الضغط على الكونجرس ليصدق على تشريع دعم حرية إيران، الذي سوف يوسع نطاق الحظر الحالي المفروض على إيران. ويحذر المسؤولون “الاسرائيليون” أيضاً من أنهم سيقدمون على عمل استباقي إن مضت إيران قدما في مشروعها النووي، وهي تلميحات تقصد في جزء منها الحفاظ على تركيز واشنطن على هذه القضية.
ويمكن للمرء أن يجادل في أن “اسرائيل” واللوبي لم يكن لهما تأثير عظيم في سياسة الولايات المتحدة تجاه إيران، لأن لدى الولايات المتحدة أسبابها الخاصة للحيلولة دون حيازة إيران للأسلحة النووية، وهذا صحيح في جزء منه، لكن طموحات إيران النووية لا تمثل تهديدا مصيريا بالنسبة للولايات المتحدة، فإذا كان في مقدور واشنطن التعايش مع اتحاد سوفييتي نووي، وصين نووية، أو حتى كوريا شمالية نووية فلا شك في أن في وسعها التعايش مع إيران نووية، وهذا هو السبب في أن اللوبي يجب أن يبقي على زخم متواصل من الضغوط على ساسة الولايات المتحدة كي تجابه إيران.
صحيح انه ما كان قدّر لإيران والولايات المتحدة أن تكونا حليفتين لو لم يوجد اللوبي، لكنه لولا اللوبي لكانت سياسة الولايات المتحدة أكثر اعتدالاً وما كان للحرب الاستباقية أن تكون خياراً جدياً.
لم يكن يفترض في حرب العراق أن تكون مستنقعاً باهظ التكاليف. بل كان المقصود منها أن تكون الخطوة الأولى في
خطة أكبر لإعادة ترتيب الشرق الأوسط.
وكانت هذه الاستراتيجية الطموحة تخلياً صارخاً عن السياسة السابقة للولايات المتحدة، وكان اللوبي و”اسرائيل” قوتين دافعتين حاسمتين وراء هذا التحول.
وقد تأكدت هذه النقطة بوضوح بعد بدء حرب العراق من خلال خبر نشر في الصفحة الأولى من صحيفة “وول ستريت جورنال”. فالعنوان الرئيسي يوضح القصة كاملة، حيث جاء فيه “حلم الرئيس: لا تغيير نظام وحسب، بل تغيير منطقة: إيجاد منطقة ديمقراطية موالية للولايات المتحدة هدف له جذور عند “اسرائيل” وعند المحافظين الجدد”.
وكانت القوى الموالية ل “اسرائيل” مهتمة منذ وقت طويل بتوريط الجيش الأمريكي بصورة أكثر مباشرة في الشرق الأوسط، بحيث يستطيع المساعدة في حماية “اسرائيل”.
ولكنها لم تحرز سوى نجاح محدد على هذه الجبهة خلال الحرب الباردة، لأن أمريكا لعبت دور “البهلوان المتوازن بعيداً عن الشاطئ” في المنطقة، حيث ظلت معظم القوات الأمريكية المخصصة للشرق الأوسط، مثل قوة الانتشار السريع “عند الأفق” وبعيداً عن طريق الخطر.
وحافظت واشنطن على توازن مفضل للقوة بضرب القوى المحلية بعضها ببعض، وهذا هو سبب دعم إدارة ريجان لصدام ضد إيران الثورية أثناء الحرب الإيرانية العراقية (1980 1988).
وسنة ،2002 عندما أصبح غزو العراق، قضية تحظى بأولوية عليا، كان إجراء التحول في المنطقة قد غدا عقيدة في أوساط المحافظين الجدد.
ويصف تشارلز كروثامر هذه الخطة الكبرى بأنها وليدة أفكار ناتاني شارانسكي، السياسي “الاسرائيلي” الذي راقت كتاباته الرئيس بوش. ولكن شارانسكي لم يكن صوتاً منفرداً في “اسرائيل”.
بل إن “الاسرائيليين” عبر الطيف السياسي كانوا يعتقدون أن إطاحة صدام سوف تغير الشرق الأوسط لمصلحة “اسرائيل”. وقد كتب أدولف بين في صحيفة “هآرتس” (17 فبراير/ شباط 2003) “إن كبار ضباط الجيش “الاسرائيلي” والمقربين من رئيس الوزراء أرييل شارون، مثل مستشار الأمن القومي افرايم هاليفي، يرسمون صورة زاهية للمستقبل الرائع الذي ينتظر “اسرائيل” بعد الحرب.
وهم يتصورون أثراً يشبه حركة أحجار الدومينو، بسقوط صدام حسين، ومن بعده أعداء “اسرائيل” الآخرون.. ومع هؤلاء الزعماء سيختفي الإرهاب، وأسلحة الدمار الشامل”.
وباختصار، فإن زعماء “اسرائيل”، والمحافظين الجدد، وإدارة بوش، كانوا جميعاً يرون الحرب مع العراق الخطوة الأولى في حملة طموحة لإعادة تشكيل الشرق الأوسط. وفي أول فيض للنصر حولوا أنظارهم شطر خصوم “اسرائيل” الآخرين في المنطقة.
أنصار الكيان يصوّبون باتجاه سوريا وإيران
لم يبدأ قادة “اسرائيل” بالضغط على إدارة بوش لدفعها لتصويب فوهات مدافعها باتجاه سوريا قبل مارس/آذار من عام ،2003 وذلك لأنهم كانوا مستغرقين إلى الحد الأقصى في جهود التحريض لشن الحرب على العراق.
وما إن سقطت بغداد في منتصف أبريل/نيسان حتى بدأ شارون وجنرالاته ورجالاته يحثون واشنطن على استهداف دمشق.
وعلى سبيل المثال أجرى شارون ووزير حربه شاؤول موفاز مقابلات قصد منها تسليط وهج إعلامي مبهر في 16 أبريل في العديد من الصحف “الاسرائيلية”.
ففي جريدة “يديعوت أحرنوت” طالب شارون الولايات المتحدة بأن تمارس ضغطاً “شديداً” على سوريا. وصرّح موفاز لمعاريف قائلاً: “لدينا لائحة طويلة من المسائل التي نفكر بأن نطالب السوريين بها، ومن المناسب أن نقوم بهذا من خلال الأمريكيين.
وتحدّث مستشار شارون لشؤون الأمن القومي إيفرايم هالفي إلى جمهور احتشد في قاعة المحاضرات في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، فأخبرهم بأن من المهم الآن بالنسبة للولايات المتحدة أن تتعامل بحزم وخشونة مع سوريا، وأوردت ال “واشنطن بوست” أن “اسرائيل” كانت “تغذي الحملة” ضد سوريا بإمداد أجهزة الاستخبارات الأمريكية بتقارير عمّا يقوم به الرئيس السوري بشار الأسد من أعمال.
وكان بعض من أبرز أعضاء اللوبي قد قدّموا الحجج ذاتها وجادلوا بالطريقة نفسها بعد سقوط بغداد. وأعلن وولفويتز أنه “يجب إحداث تغيير للنظام في سوريا”.
وأخبر ريتشارد بيرل أحد الصحافيين قائلاً: “يمكننا أن نبث رسالة قصيرة، رسالة تتألف من كلمتين (إلى الأنظمة المعادية الأخرى في الشرق الأوسط): “أنتم اللاحقون””.
وفي أوائل ابريل نشر معهد واشنطن لسياسة الشرق الأوسط تقريراً يمثل رأي الحزبين (الجمهوري والديمقراطي) بدأ بعبارة أن سوريا “يجب ألا يفوتها مغزى الرسالة، ألا وهي أن الدول التي تنتهج سياسة صدام حسين الرعناء، وتسلك طريق التحدي، يمكن أن ينتهي بها المطاف إلى مواجهة ما واجهه من مصير”.
وفي الخامس عشر من أبريل كتب كلين هالفي مقالاً في صحيفة “لوس أنجلوس تايمز” تحت عنوان: “في الخطوة التالية صعّدوا الضغوط على سوريا”.
هذا في حين كتب زيف تشافيتس مقالاً في اليوم نفسه لجريدة “نيويورك ديلي نيوز” بعنوان “سوريا صديقة الإرهاب تحتاج إلى تغيير أيضاً”. ولئلا يزايد عليه أحد، سارع لورنس كابلان فكتب في صحيفة “نيو ريبيلك” بتاريخ 21 أبريل ليقول: إن الرئيس السوري بشار يمثل تهديداً خطيراً لأمريكا.
وعودة أخرى إلى الكابيتول هيل حيث نفض عضو الكونجرس، نائب نيويورك إيليوت اينجيل الغبار عن قانون محاسبة سوريا واسترداد السيادة اللبنانية وأعاد تقديمه يوم 12 أبريل، وتوعد هذا القانون سوريا بفرض عقوبات إن هي لم تنسحب من لبنان، وتتخلى عن أسلحة الدمار الشامل، وتوقف دعمها للإرهاب، كما طالب سوريا ولبنان باتخاذ خطوات عملية ملموسة لإبرام سلام مع “اسرائيل”.
وأفاض اللوبي تبريكاته على هذا التشريع، وتبناه بقوة، لا سيما إيباك، و”أطرت له الأطر” حسب “جويش تلجراف” اليهودية “من قبل بعض من أخلص أصدقاء “اسرائيل” في الكونجرس”.
كان هذا التشريع مهملاً إلى حد ما لبرهة من الوقت، ويعزى السبب الأكبر في هذا الغض إلى أن إدارة بوش لم تكن شديدة الحماس لطرحه وتبنيه بقوة، غير أنه جرى تمرير هذا التشريع المناهض لسوريا بأغلبية ساحقة (398 صوتاً إلى 4) في مجلس النواب وبنسبة 89 إلى 4 في مجلس الشيوخ، وصدق بوش عليه ليصبح قانوناً في 12 ديسمبر/كانون الأول من عام 2003.
ومع ذلك كانت إدارة بوش لا تزال منقسمة بشأن الحكمة من استهداف سوريا في هذا الوقت بالذات، ومع أن المحافظين الجدد كانوا يتوقون في الحقيقة إلى تأجيج صراع مع دمشق، فإن وكالة الاستخبارات المركزية ووزارة الخارجية كانتا تعارضان هذا التوجه. وحتى بعدما وقع بوش على القانون الجديد أكد أنه سيمضي ببطء وتدرّج في تطبيقه.
ويمكن فهم ازدواجية بوش وتأرجحه حيال هذه القضية، ففي المقام الأول، دأبت الحكومة السورية على إمداد الولايات المتحدة بدفق ضخم من المعلومات الاستخباراتية المهمة عن تنظيم القاعدة منذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، كما أنها حذرت واشنطن أيضاً في الوقت المناسب بشأن هجوم إرهابي كانت القاعدة قد خططت لشنه في الخليج.
وعلاوة على ذلك أمّنت سوريا لمحققي الاستجواب في ال “سي آي إيه” سبل الوصول إلى محمد الزمار، الذي راجت مزاعم بأنه هو من قام بتجنيد العناصر التي شنت هجمات 11/9 واختطفت الطائرات، والقبض عليه، فاستهداف نظام بشار الأسد من شأنه أن يهدد حلقات الارتباط الثمينة هذه ويقوض جهود الحرب الكبرى على الإرهاب.
وفي المقام الثاني، لم تكن علاقات دمشق سيئة مع واشنطن قبل الحرب على العراق (فعلى سبيل المثال كان قد بلغ بسوريا التعاون أن صوتت لمصلحة القرار 1441 في مجلس الأمن)، كما لم تكن سوريا تمثل تهديداً للولايات المتحدة بحال من الأحوال، فالتشدد تجاه سوريا واستخدام الخشونة في التعامل معها سوف يظهر الولايات المتحدة بمظهر “البلطجي” أو “القبضاي” المتغطرس الذي لا يروي ظمأه إلا إشباع الدول العربية ضرباً وإذلالاً.
وأخيراً فإن الزج بسوريا في لائحة الدول التي تستهدفها أمريكا من شأنه أن يوفر لسوريا حافزاً قوياً وذريعة لإحداث اضطراب وقلاقل في العراق، وحتى لو ارتأى المرء الضغط على سوريا فثمة ألف سبيل بديل لذلك. كما أن من الحكمة قبل التصعيد مع دمشق إنجاز المهمة في العراق أولاً.
ومع ذلك أصر الكونجرس على تصعيد الضغوط على سوريا، وكان الدافع الأكبر وراء ذلك هو الاستجابة لضغط مارسه المسؤولون “الاسرائيليون” والجماعات الموالية ل “اسرائيل” مثل “إيباك”.
ولو لم يكن هناك لوبي “اسرائيلي” ضاغط شديد الجبروت والتأثير لما كان ثمّة قانون لمحاسبة سوريا، ولكانت سياسة الولايات المتحدة تجاه دمشق أكثر استجابة على الأرجح وأعظم خدمة للمصالح القومية الأمريكية.
استهداف إيران
يميل “الاسرائيليون” إلى وصف أي تهديد بأشد العبارات وأقسى الألفاظ، لكن إيران ينظر إليها على نطاق واسع على أنها أخطر أعدائهم على الإطلاق، وما ذلك إلا لأنها أرجح الخصوم كفّة في احتمالات حيازة السلاح النووي حالياً.
وفي حقيقة الأمر فإن “الاسرائيليين” كلهم يرى في أي بلد إسلامي في الشرق الأوسط يحوز أسلحة نووية تهديداً مصيرياً داهماً.
وكما كان وزير الحرب “الاسرائيلي” بنيامين بن أليعازر قد علّق قبل شهر واحد من غزو العراق فإن “العراق مشكلة.. لكنكم ينبغي أن تفهموا هذه النقطة، أعني أنكم لو سألتموني اليوم فإيران أخطر من العراق”.
وكان شارون قد بدأ يدفع الولايات المتحدة ويضغط عليها علانية لتجابه إيران في نوفمبر/تشرين الثاني من عام ،2002 في مقابلة مع “التايمز” اللندنية أريد لها أن تحظى بوهج إعلامي كبير.
فبعدما وصم إيران بأنها “ينبوع الإرهاب في العالم” وأنها مصممة على امتلاك السلاح النووي، أعلن أنه يجب على إدارة بوش أن تستخدم القبضة الحديدة ضد إيران “في اليوم التالي” لغزوها العراق. وفي أواخر أبريل من عام ،2003 أوردت صحيفة “هاآرتس” في تقرير لها أن السفير “الاسرائيلي” في واشنطن صار يدعو اليوم إلى تغيير النظام في إيران.
وعبّر السفير عن وجهة نظره في أن الإطاحة بصدام لم تكن “كافية”. وحسب كلماته فإن أمريكا “ينبغي عليها أن تمضي قدماً وتتابع، فما زالت هناك أخطار جسام تحدق بنا من صوب سوريا، وأعظم منها، من جهة إيران”.
كما لم يهدر المحافظون الجدد لحظة واحدة في السعي لاختلاق الذرائع وتلفيق الأمور كي يبنوا عليها قضية تغيير النظام في طهران. في السادس من مايو/أيار احتضن معهد المشروع الأمريكي مؤتمراً حول إيران استغرق يوماً كاملاً وشاركته في رعاية المؤتمر المنظمة المناصرة ل “اسرائيل”، “مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات” ومعهد هدسون.
وكان المتحدثون كلهم جميعاً موالين ل “اسرائيل” يناصرونها أشدّ المناصرة، ودعا كثير منهم الولايات المتحدة إلى استبدال النظام الإيراني بديمقراطية. وكما هو معهود، كان هناك سيل عرم من المقالات التي دبجها محافظون جدد بارزون انغمسوا في مشاغل تهيئة السبل لاستهداف إيران، فعلى سبيل المثال، كتب وليم كريستول في الويكلي ستاندرد يوم 12 مايو/أيار أن “تحرير العراق كان المعركة العظمى الأولى على درب رسم ملامح مستقبل الشرق الأوسط..
إلا أن المعركة العظيمة التالية ونأمل أن لا تكون عسكرية، ستكون المعركة ضد إيران”.
واستجابت إدارة بوش لضغوط اللوبي بأن وصلت الليل بالنهار وبذلت قصارى جهدها لإجهاض البرنامج النووي الإيراني.
لكن واشنطن لم تحرز نجاحاً يذكر، وتبدو إيران مصممة على الحصول على ترسانة نووية.
ونتيجة لذلك صعّد اللوبي ضغوطه على حكومة الولايات المتحدة مسخراً كلّ ما في جعبته من استراتيجيات وألاعيب، وتنهال علينا اليوم الافتتاحيات والمقالات التي تحذّر حالياً من الأخطار الوشيكة التي تحدث بالعالم إذا امتلكت إيران السلاح النووي، وتنذر المجتمع الدولي وتخوّفه من خطورة أي تغاضٍ أو استرضاء أو مهادنة لنظام “إرهابي”، وتلمّح بصورة سوداوية قاتمة إلى أنه ينبغي التحرك للقيام بعمل استباقي وقائي في حال أخفقت الدبلوماسية، كما يدأب اللوبي على الضغط على الكونجرس ليصدق على تشريع دعم حرية إيران، الذي سوف يوسع نطاق الحظر الحالي المفروض على إيران. ويحذر المسؤولون “الاسرائيليون” أيضاً من أنهم سيقدمون على عمل استباقي إن مضت إيران قدما في مشروعها النووي، وهي تلميحات تقصد في جزء منها الحفاظ على تركيز واشنطن على هذه القضية.
ويمكن للمرء أن يجادل في أن “اسرائيل” واللوبي لم يكن لهما تأثير عظيم في سياسة الولايات المتحدة تجاه إيران، لأن لدى الولايات المتحدة أسبابها الخاصة للحيلولة دون حيازة إيران للأسلحة النووية، وهذا صحيح في جزء منه، لكن طموحات إيران النووية لا تمثل تهديدا مصيريا بالنسبة للولايات المتحدة، فإذا كان في مقدور واشنطن التعايش مع اتحاد سوفييتي نووي، وصين نووية، أو حتى كوريا شمالية نووية فلا شك في أن في وسعها التعايش مع إيران نووية، وهذا هو السبب في أن اللوبي يجب أن يبقي على زخم متواصل من الضغوط على ساسة الولايات المتحدة كي تجابه إيران.
صحيح انه ما كان قدّر لإيران والولايات المتحدة أن تكونا حليفتين لو لم يوجد اللوبي، لكنه لولا اللوبي لكانت سياسة الولايات المتحدة أكثر اعتدالاً وما كان للحرب الاستباقية أن تكون خياراً جدياً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق