بحث

الجمعة، 17 أبريل 2015

اللوبي "الإسرائيلي"والسياسة الخارجية الأمريكية : 2.

الكيان يمثل عبئاً استراتيجياً ومع ذلك فإنه يحظى بأكبر دعم في التاريخ.

سياسة الولايات المتحدة الخارجية تصوغ الأحداث وتضعها في كل بقعة من بقاع الدنيا. ولا يصدق هذا القول على
جزء من أجزاء العالم صدقه على الشرق الأوسط، هذه المنطقة التي تحظى بأهمية إستراتيجية كبرى، في حين تعج باضطرابات لا تهدأ اليوم حتى تتأجج غداً، وفي احدث تجليات حراكها ساعدت محاولة إدارة بوش وسعيها في الآونة الأخيرة إلى تحويل المنطقة إلى مجتمع من الديمقراطيات على انبثاق تمرد عتيّ عصيّ على السحق، ما إن يقصف ويحترق حتى ينتفض وينبعث مجددا من بين سحب الدخان وثنايا الرماد، كما أسهمت في أحداث ارتفاع حاد في أسعار النفط العالمية، وكانت حافزا للتفجيرات الإرهابية في كل من مدريد ولندن وعمان، فإذا كانت كل هذه المخاطر تحدق بجماعات ضخمة من الناس، فإن على كل بلدان العالم أن تعي ضرورة فهم تلك القوى التي تقف وراء سياسة الولايات المتحدة الشرق أوسطية وتحركها.

ينبغي أن تحظى المصلحة القومية الأمريكية بالصدارة المطلقة في أولويات السياسة الخارجية الأمريكية. إلا انه وعلى امتداد الفترة الزمنية الماضية، ولا سيما منذ حرب يونيو/ حزيران من عام ،1967 ظلت علاقة الولايات المتحدة ب “اسرائيل” هي حجر الزاوية في سياسة الولايات المتحدة الشرق أوسطية. وأدت المزاوجة بين سياسة الدعم المتواصل وغير المحدود من أمريكا ل “اسرائيل”، وبين السعي لنشر الديمقراطية في أرجاء المنطقة، إلى إلهاب مشاعر السخط في أوساط الرأي العام العربي والإسلامي، وهددت أمن الولايات المتحدة.

وليس لهذه الحالة نظير في التاريخ السياسي الأمريكي، فما الذي جعل الولايات المتحدة ترضى بأن تنحي جانباً أمنها الخاص بصفتها بلدا كبيرا ودولة عظمى خدمة لمصالح دولة أخرى، ولربما جنح الخيال بذهن المرء بعيدا فخال أن أواصر التلاحم بين البلدين تقوم على مصالح إستراتيجية مشتركة، أو على قيم ومبادئ أخلاقية التزماها والتشبث بها بحذافيرها فرض واجب.

غير انه وكما سوف نبين فيما يلي أنه لا يمكن تبني أي من هذين التفسيرين لشرح وتعليل المستوى الاستثنائي والمميز جدا من الدعم المادي والدبلوماسي والعسكري الذي تمد به الولايات المتحدة “اسرائيل”.

وعوضاً عن ذلك كان مجمل حراك سياسة الولايات المتحدة يكاد كله يعزى إلى سياسات أمريكا المحلية، وبخاصة إلى نشاطات جماعة الضغط “الاسرائيلية” أو “اللوبي الاسرائيلي”. نعم لقد نجحت جماعات ضغط المصالح الخاصة الأخرى في استمالة سياسة الولايات المتحدة الخارجية وحرفها إلى اتجاهات تحابيها وترضيها. لكن أياً من جماعات الضغط الأخرى كلها لم يحقق نجاحاً يماثل أو يداني ما أحرزه اللوبي “الاسرائيلي” من انتصارات، ولم تفلح أي جهة أخرى في أن تنأى بالسياسة الخارجية الأمريكية وتجنح بها بعيدا عن مقتضيات المصلحة القومية الأمريكية، في حين انبرى هذا اللوبي ذاته وفي الوقت نفسه لإقناع الأمريكيين بأن مصالح أمريكا ومصالح “اسرائيل” متطابقة في الجوهر.

وفيما يلي سوف نتصدى لوصف الأساليب والسبل التي اتبعتها جماعة الضغط هذه، حتى أفلحت في “اجتراح هذا الانجاز المذهل، وكيف أن نشاطاتها صاغت التوجهات والتصرفات والسياسات الأمريكية في هذه المنطقة الحساسة، فإذا ما أخذنا في الحسبان الأهمية الإستراتيجية الهائلة للشرق الأوسط وتأثيراته المحتملة وتداعيات ما يمكن أن يحدث فيه، يتبين أن على الجميع، سواء أكانوا أمريكيين أو غيرهم، أن يفهموا ويتصدوا لتأثير هذا اللوبي على السياسة الأمريكية.

ونحن نقدر تماماً أن هذا التحليل ربما يقض مضجع بعض القراء ويزعجهم، إلا أن ما نورده هنا من حقائق ليست مثار جدل في أوساط العلماء والباحثين المطلعين، وفي الحقيقة تستند رواياتنا، وإلى حدٍ كبير، إلى عمل العلماء والصحافيين “الاسرائيليين” الذين يستحقون منا الإشادة وعظيم الثناء لما ألقوه من أضواء على هذه القضايا. كما أننا نعتمد أيضاً على ما وافانا به أيضاً الدعاة المحترمون لحقوق الإنسان والمنظمات الدولية المشتغلة في هذا المجال، سواء أكانت “اسرائيلية” أم غير ذلك، من أدلة. وعلى نحو مشابه، فإن دعاوانا بشأن نفوذ وتأثير اللوبي “الاسرائيلي” تستند إلى شهادات من أعضاء اللوبي ذاته، إضافة إلى شهادة من سياسيين عملوا معهم. وبالطبع فإن القراء ربما يرفضون استنتاجاتنا، غير أن المستندات التي اعتمدنا عليها فيما خلصنا إليه لا جدال فيها ولا يتطرق إليها الشك.

منذ حرب أكتوبر/ تشرين الأول عام ،1973 أغدقت واشنطن على “اسرائيل” قدراً هائلاً من الدعم، يتقزم إزاءه كل ركام الدعم المقدم لأي دولة أخرى في العالم، كانت “اسرائيل” على مدار هذه الحقبة المتطاولة أكبر متلق على الإطلاق لهذا الدعم والمعونات الإجمالية والهبات السنوية منذ الحرب العالمية الثانية. فإجمالي العون الأمريكي المباشر ل “اسرائيل” يفوق 140 مليار دولار في عام ،2003 وتتلقى “اسرائيل” نحو 3 مليارات دولار من المساعدات الخارجية المباشرة كل عام، وهو ما يمثل نحو خمس ميزانية العون الخارجي الأمريكي الذي تقدمه الولايات المتحدة. فإذا ما قسنا المسألة بالمقياس الفردي نرى أن الولايات المتحدة تقدم لكل “اسرائيلي” عوناً مباشراً يبلغ نحو 500 دولار كل سنة، ويتعاظم عجب المرء من هذا السخاء المفرط حين يدرك أن “اسرائيل” اليوم دولة صناعية ثرية يعادل الدخل الفردي فيها نظيره في كوريا الجنوبية أو اسبانيا.

دعم الصناعات الحربية


وتحظى “اسرائيل” أيضاً بصفقات أخرى خاصة من واشنطن بأشكال شتى. ويحصل متلقو العون الآخرون على مخصصاتهم المالية فصلياً أي دفعة كل ثلاثة أشهر، لكن “اسرائيل” تستلم مخصصاتها كاملة في مستهل كل سنة مالية من دون تسويف أو تأخير، وهكذا تغنم فوائد إضافية اكبر. ويطلب من معظم متلقي المساعدات العسكرية الأمريكية أن ينفقوا هذا التمويل كله في الولايات المتحدة، إلا أن “اسرائيل” تستطيع أن تستخدم نحو 25% من أموال الدعم المخصصة لها لتدعم صناعاتها الحربية و”اسرائيل” هي المتلقي الوحيد للمساعدات الأمريكية الذي لا يطلب منه قط أن يقدم كشفاً توضيحياً للكيفية التي يتم بها إنفاق أموال الدعم هذه، وهو إعفاء يجعل من المستحيل في واقع الأمر الحيلولة من دون أن يستخدم هذا المال لأغراض تعارضها الولايات المتحدة، مثل بناء المستوطنات في الضفة الغربية.

وعلاوة على ذلك، زودت الولايات المتحدة “اسرائيل” بنحو 3 مليارات دولار لتطوير أنظمة تسلح مثل طائرة “لافي” التي لم يردها البنتاجون ولم يكن يحتاجها في الوقت الذي كانت تتيح فيه “اسرائيل” الحصول على أحدث ما في الترسانة الأمريكية من أسلحة متطورة فتاكة مثل مروحيات “بلاك هوك” وطائرات “إف - 16”، وأخيراً فإن الولايات المتحدة تفتح ل “اسرائيل” الباب على مصراعيه للحصول على معلومات استخباراتية تضن بها حتى على أخلص حلفائها في حلف الناتو، هذا فضلاً عن غض الطرف من جانب الولايات المتحدة لحيازة “اسرائيل” للأسلحة النووية.

فضلاً عن هذا وذاك، تزود واشنطن “اسرائيل” بدعم دبلوماسي مضطرد ومتواصل. فمنذ عام 1982 اعترضت الولايات المتحدة على نحو 32 قراراً دولياً من قرارات مجلس الأمن الدولي وأشهرت في وجهها سيف الفيتو لأنها اعتبرتها منتقدة ل “اسرائيل”، وهو عدد يفوق العدد الإجمالي للمرات التي استخدم فيها أعضاء مجلس الأمن الآخرون مجتمعين حق الفيتو. كما أنها تعرقل مساعي الدول العربية لوضع مسألة ترسانة الأسلحة النووية “الاسرائيلية” على جدول أعمال الوكالة الدولية للطاقة الذرية.

والولايات المتحدة لا تتلكأ أبداً في نصرة “اسرائيل” بل تهب فوراً لمؤازرتها ونجدتها في زمن الحرب وتقف وراءها وتدعمها دعماً كاملاً حين تتفاوض لفرض السلام. فإدارة الرئيس نيكسون أعادت إمداد وتجديد ترسانة “اسرائيل” من الأسلحة خلال حرب أكتوبر/ تشرين الأول ،1973 وحمت “اسرائيل” من التهديد الذي كان يمثله التدخل السوفييتي وانضمت واشنطن بعمق في المفاوضات التي أنهت تلك الحرب، هذا إضافة إلى مشاركتها المكثفة في عملية “الخطوة خطوة” المطولة التي تبعت ذلك، تماما كما لعبت دوراً محورياً في المفاوضات التي سبقت وأعقبت اتفاقيات أوسلو عام 1993.

وبين الفينة والفينة كانت ثمة خلافات عارضة تبرز بين المسؤولين الأمريكان و”الاسرائيليين” في الحالتين لكن الولايات المتحدة قامت بتنسيق مواقفها مع “اسرائيل” بحميمية مطلقة، وكانت دائما تدعم وتناصر الموقف “الاسرائيلي” في المفاوضات، وفي الحقيقة، قال أحد المشاركين الأمريكان في مفاوضات كامب ديفيد لعام 2000 لاحقاً: “كنا في الأعم الأغلب من الحالات، نقوم بدور المحامي عن “اسرائيل”.

وكما سوف نناقش فيما يلي، فإن واشنطن قد منحت “اسرائيل” هامشا هائلا من حرية التحرك بلا رقيب أو حسيب في تعاملها مع المناطق الفلسطينية المحتلة (الضفة الغربية وقطاع غزة) حتى عندما كانت أفعالها تصادم السياسة الأمريكية المعلنة. وفوق ذلك فإن إستراتيجية إدارة بوش الطموحة بتحويل الشرق الأوسط ابتداء بغزو العراق ترمي في جزء منها على الأقل إلى تحسين وضع “اسرائيل” الاستراتيجي فبعيداً عن تحالفات زمن الحرب، من الصعب أن يفكر المرء بمثال آخر حدث فيه أن زود بلد ما بلداً آخر بنفس المستوى من الدعم المادي والدبلوماسي الذي يغدق على “اسرائيل” ولفترة طويلة جدا. وباختصار فإن دعم أمريكا ل “اسرائيل” فريد من نوعه.

وهذا السخاء منقطع النظير كان يمكن فهمه لو كانت “اسرائيل” مصدر قوة إستراتيجية نفيسة، أو لو كانت هناك قضية أخلاقية ملحة تقتضي دعماً أمريكياً مستداماً غير أن هاتين الحجتين لا تقنعان أحداً.

عبء استراتيجي


وفقاً لما ورد في موقع إيباك (اللجنة الأمريكية “الاسرائيلية” المشتركة للشؤون العامة) على شبكة الانترنيت فان: “الولايات المتحدة و”اسرائيل” شكلتا شراكة فريدة لمواجهة التهديدات الإستراتيجية المتعاظمة في الشرق الأوسط”.. ويمنح هذا الجهد التعاوني فوائد جمة لكل من الولايات المتحدة و”اسرائيل””. وهذا الزعم يمثل أحد أركان الإيمان في أوساط مناصري “اسرائيل”، ودائما ما يستشهد به ويثار بصورة روتينية من قبل الساسة “الاسرائيليين” والأمريكيين الموالين ل “اسرائيل”.

ولربما كانت “اسرائيل” رصيداً استراتيجياً بالغ الأهمية في حقبة الحرب الباردة، فعندما خدمت “اسرائيل” بصفة وكيل مفوض ينوب عن أمريكا في بعض المهام بعد حرب يونيو/ حزيران عام ،1967 ساعدت “اسرائيل” وأسهمت مساهمة فاعلة في احتواء التوسع السوفييتي في المنطقة، وألحقت هزائم مذلة بزبائن السوفييت في الشرق الأوسط مثل مصر وسوريا، ومن حين لآخر ساعدت “اسرائيل” على حماية حلفاء الولايات المتحدة الآخرين وحملت براعة “اسرائيل” العسكرية وتفوقها موسكو على أن تنفق المزيد من الأموال تدعم بها زبائنها الخاسرين. كما قدمت “اسرائيل” للولايات المتحدة معلومات استخباراتية مفيدة عن القدرات السوفييتية.

ولا ينبغي المغالاة في تصوير قيمة “اسرائيل” الإستراتيجية خلال تلك الفترة إذ لم يكن دعم “اسرائيل” زهيد الثمن، بل كانت كلفته باهظة، فضلاً عن انه عقد علاقات الولايات المتحدة مع العالم العربي.

فعلى سبيل المثال أجّج قرار الولايات المتحدة بمنح “اسرائيل” مبلغ 2،2 مليار دولار على هيئة مساعدات عسكرية طارئة خلال حرب أكتوبر/ تشرين الأول غضب العرب وأثار حفيظة منظمة “أوبيك” ففرضت حظراً نفطياً ألحق بالاقتصادات الغربية ضرراً بالغاً. والأدهى من ذلك أن قوة “اسرائيل” العسكرية لم تستطع أن توفر الحماية للمصالح الأمريكية في المنطقة، وعلى سبيل المثال لم يكن في وسع الولايات المتحدة الاعتماد على “اسرائيل” عندما أثارت الثورة الإيرانية في عام ،1979 المخاوف وتصاعد القلق بشأن أمن الإمدادات النفطية في الخليج العربي، وتعين عليها بدلاً من ذلك إنشاء “قوة الانتشار السريع” الخاصة بها.

وحتى لو كانت “اسرائيل” بالفعل رصيدا استراتيجياً له أهميته زمن الحرب الباردة، فإن حرب الخليج الأولى في عام 1990/ 1991 أماطت اللثام عن حقيقة أن “اسرائيل”، آخذة بالتحول إلى عبء استراتيجي، فالولايات المتحدة لم تستطع استخدام القواعد “الاسرائيلية” خلال الحرب خشية المخاطرة بتمزيق التحالف ضد العراق، وكان عليها أن تحوّل مواردها وعتادها المتطور (على سبيل المثال منظومة بطاريات صواريخ الباتريوت) لتثني تل أبيب عن القيام بأي عمل يمكن أن يفصم أو يوهن عرى التحالف الذي تشكل ضد صدام حسين، وكرر التاريخ نفسه مرة أخرى في عام ،2003 فعلى الرغم من تلهف “اسرائيل” لقيام الولايات المتحدة بمهاجمة العراق فإن الرئيس بوش لم يكن في وسعه الطلب إليها بأن تمد يد العون من دون أن يشعل فتيل معارضة عربية، لذا بقيت “اسرائيل” عند الخط الجانبي مرة أخرى.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق