وبداية من حقبة التسعينات، وبخاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول كان من أبرز ما سيق من ذرائع لتبرير دعم الولايات المتحدة ل “اسرائيل” أن الدولتين كلتيهما مهددتان بالجماعات الإرهابية المنتشرة في
العالم العربي أو العالم الإسلامي، ومن قبل زمرة من “الدول المارقة” التي تدعم هذه الجماعات وتسعى لحيازة أسلحة دمار شامل. وهذا الأساس المنطقي الذي يتحججون به ينطوي على فكرة انه يتوجب على واشنطن أن تطلق يد “اسرائيل” في تعاملها مع الفلسطينيين لتصنع بهم ما تشاء، والكف عن أي محاولة للضغط على “اسرائيل” لتقديم تنازلات إلى أن يتم بشكل كامل سجن جميع الإرهابيين الفلسطينيين أو قتلهم. كما يحمل هذا المنطق في ثناياه فكرة انه ينبغي على الولايات المتحدة أن تلاحق دولاً مثل جمهورية إيران الإسلامية، وعراق صدام حسين، وسوريا بشار الأسد، وان تضيق الخناق عليها، وهكذا صار ينظر إلى “اسرائيل” على أنها الحليف المصيري الأكثر أهمية في الحرب على الإرهاب، لأن أعداءها هم أنفسهم أعداء أمريكا.ويبدو هذا الأساس المنطقي الجديد مقنعاً، لكن “اسرائيل” في الحقيقة عبء في الحرب على الإرهاب، كما أنها عقبة في الجهد الأوسع المطلوب للتعامل مع الدول المارقة.
وبادئ ذي بدء فإن “الإرهاب” إنما هو تكتيك يستخدمه حشد واسع جداً من الجماعات السياسية، إذاً فهو ليس بالعدو المفرد الموحد المواصفات. والمنظمات “الإرهابية” التي تهدد “اسرائيل” (حماس أو حزب الله مثلا) لا تهدد الولايات المتحدة، إلا عندما تتدخل ضدها (كما في لبنان عام 1982). وفوق ذلك فإن “الإرهاب” الفلسطيني ليس عنفاً عشوائياً موجهاً ضد “اسرائيل” أو ضد الغرب، بل هو رد على حملة “اسرائيل” التي تشنها منذ دهر طويل وتبتغي بها استعمار الضفة الغربية وقطاع غزة.
وثار جدل آخر في عام 2004 عندما كشف النقاب عن أن أحد كبار مسؤولي البنتاجون وهو لاري فرانكلين قد سرّب معلومات سرية للغاية إلى دبلوماسي “اسرائيلي” يساعده اثنان من كبار مسؤولي “إيباك” و”اسرائيل” ليست هي الدولة الوحيدة التي تتجسس على الولايات المتحدة، غير أن استعدادها التام للتجسس على نصيرها الأكبر يلقي بالمزيد من ظلال الشك على قيمتها الإستراتيجية.
بعيداً عن قيمتها الإستراتيجية المزعومة دأب مناصرو “اسرائيل” أيضاً على المجادلة بأنها تستحق دعماً أمريكياً غير مشروط لأنها: 1) ضعيفة يحيط بها الأعداء، 2) ديمقراطية، فهي مفضلة في الناحية الأخلاقية، 3) عانى الشعب اليهودي ما عاناه من جرائم الماضي لذا فإنه يستحق معاملة خاصة، 4) تصرف “اسرائيل” متفوق أخلاقياً على سلوك أعدائها.
لكننا حين نمعن النظر في هذه الحجج نراها غير مقنعة كلها، نعم ثمة قضية أخلاقية قوية لدعم وجود “اسرائيل” لكن وجودها هذا غير مهدد. وإذا ما نظرنا بموضوعية فإن مسلك “اسرائيل” في الماضي والحاضر لا يقدم لنا الأساس الأخلاقي لتفضيلها على الفلسطينيين.
نصرة الضحية المضطهدة؟
لطالما جرى تصوير “اسرائيل” على أنها ضعيفة مسكينة محاصرة، فهي في الإعلام داوود اليهودي يطوقه العربي العدواني جالوت. ومنذ البدء استمات القادة “الاسرائيليون” والكتّاب المتعاطفون مع “اسرائيل” لترسيخ هذه الصورة وتغذيتها وترويجها، وحرصوا على هذه الخطة أشد الحرص، بيد أن الصورة المعاكسة تماما هي لب الحقيقة، فعلى عكس الاعتقاد الشعبي الشائع كان لدى الصهاينة قوات مسلحة أكبر عدداً وأفضل عتاداً وقيادة خلال العام 1948 وحقق الجيش “الاسرائيلي” انتصارات سهلة ضد مصر خلال العدوان الثلاثي عام 1956 وضد كل من مصر والأردن وسوريا في عام ،1967 وذلك قبل أن يبدأ الجسر الجوي الأمريكي يتدفق بالأسلحة والمساعدات الضخمة على “اسرائيل”، وتقدم هذه الانتصارات دليلاً ناطقاً ليس ثمة ما هو أفصح منه على مدى ما تتشبع به “اسرائيل” من روح وطنية، وسعة ما تتمتع به من قدرات تنظيمية وتفوق ما تباهي به من براعة عسكرية، غير أن هذه الانتصارات تكشف النقاب أيضاً عن أن “اسرائيل” كانت أبعد ما تكون عن العجز والضعف حتى في سني إنشائها الأولى.
وها هي “اسرائيل” اليوم القوة العسكرية الأعظم جبروتاً في الشرق الأوسط على الإطلاق، فقواتها التقليدية تتفوق بشكل كاسح على جيرانها، كما أنها الدولة الوحيدة في المنطقة التي تمتلك أسلحة نووية.
وكانت مصر والأردن قد وقعتا اتفاقيات سلام مع “اسرائيل”، كما عرضت المملكة العربية السعودية أن تحذو حذوهما وخسرت سوريا نصيرها السوفييتي الراعي بانهيار الاتحاد السوفييتي، وأما العراق فكان الإنهاك قد أقعده جراء الحروب الثلاث المدمرة التي خاضها أو أرغم على خوضها، كما أن إيران تبعد مئات الأميال والفلسطينيون يكاد لا يوجد بين أيديهم سوى قوة من الشرطة الهشة البنيان، المتدنية التسليح والضعيفة التي تعجز عن فرض الأمن ناهيك عن أن يكون بحوزتهم من القوة العسكرية ما يهدد “اسرائيل”.
وحسبما جاء في دراسة تقويمية أجراها مركز جافي التابع لجامعة تل أبيب والمتخصص بالدراسات الاستراتيجية فإن “التوازن الاستراتيجي هو لمصلحة “اسرائيل” على وجه اليقين، والفجوة النوعية الهائلة أصلاً بين القدرات العسكرية العربية وبين القدرات “الاسرائيلية” آخذة بالاتساع، وقوى الردع “الاسرائيلية” في تعاظم مستمر، وهناك تفوق كاسح على جيرانها”. فإذا كانت نصرة الضعيف المظلوم المهيض الجناح والمضطهد تشكل أساساً منطقياً قاهراً تقتضيه منظومة المبادئ الخلقية، فعندها يجب على الولايات المتحدة ان تدعم خصوم “اسرائيل” وتهب لنصرتهم.
"اسرائيل" أول من مارس الإرهاب منذ قيامها العام 1948
كثيراً ما يتم تبرير الدعم بالإدعاء بأن “اسرائيل” ديمقراطية زميلة محاطة بدكتاتوريات معادية. ويبدو هذا المنطق مقنعاً، ولكنه لا يستطيع تفسير المستوى الحالي من الدعم الأمريكي، لأن هناك العديد من الديمقراطيات في العالم، ولكن أيا منها لا يتلقى الدعم السخي الذي تتلقاه “اسرائيل”.
وقد أطاحت الولايات المتحدة بحكومات ديمقراطية في الماضي ودعمت طغاة مستبدين عندما اعتقدت بأن ذلك يدعم المصالح الأمريكية، كما أن لها علاقات طيبة مع عدد من الدكتاتوريات اليوم.
وعلى ذلك، فإن كون الدولة ديمقراطية لا يبرر ولا يفسر دعم أمريكا ل “اسرائيل”.
كما أن حجة “الديمقراطية المشتركة” تضعفها جوانب في الديمقراطية “الاسرائيلية” لا تتفق مع جوهر القيم الأمريكية. فالولايات المتحدة ديمقراطية ليبرالية، يفترض أن يتمتع فيها أفراد كل ديانة أو جماعة سكانية أو عرقية بحقوق متساوية. وفي المقابل، قامت “اسرائيل” بوضوح باعتبارها دولة يهودية، كما أن حق المواطنة فيها مبني على قرابة الدم. ومع أخذ هذا المفهوم لحق المواطنة بعين الاعتبار، لا يبدو مدهشا أن تجري معاملة عرب “اسرائيل” البالغ عددهم 1،3 مليون نسمة باعتبارهم مواطنين من الدرجة الثانية، أو أن تجد لجنة حكومية “اسرائيلية” شكلت أخيراً أن “اسرائيل” تتصرف نحوهم بطريقة قائمة على “الإهمال والتمييز”.
وبالمثل، لا تسمح “اسرائيل” للفلسطينيين الذين يتزوجون مواطنات “اسرائيليات” بأن يصبحوا مواطنين هم أنفسهم، ولا تمنح هؤلاء الأزواج حق العيش في “اسرائيل”، وقد وصفت منظمة حقوق الإنسان “الاسرائيلية” بتسليم هذا التقييد بأنه “قانون عنصري يقرر من يستطيع العيش هنا بناء على معايير عنصرية”، ومثل هذه القوانين قد تكون قابلة للتفهم، بأخذ المبادئ المؤسسة ل “اسرائيل” بعين الاعتبار، ولكنها لا تنسجم مع تصور أمريكا للديمقراطية.
كما يتقوض وضع “اسرائيل” الديمقراطي بفعل رفضها منح الفلسطينيين دولة قابلة للحياة خاصة بهم، ف “اسرائيل” تتحكم بحياة نحو 3،8 مليون فلسطيني في غزة والصفة الغربية، بينما تستعمر أراضي كان الفلسطينيون يقيمون فيها منذ عهد بعيد. و”اسرائيل” ديمقراطية رسميا، ولكن ملايين الفلسطينيين الذين تتحكم بهم محرومون من الحقوق السياسية الكاملة، وبذلك يصبح منطق “الديمقراطية المشتركة” واهناً تبعاً لذلك.
التعويض عن جرائم سابقة
ثمة تبرير أخلاقي ثالث هو تاريخ المعاناة اليهودية في الغرب المسيحي، وبخاصة الأحداث المأساوية للمحرقة اليهودية، ولأن اليهود تم اضطهادهم على مدى قرون، ولا يمكن أن يكونوا في مأمن إلا في وطن يهودي، فإن البعض يعتقد بأن “اسرائيل” تستحق معاملة خاصة من قبل الولايات المتحدة.
وما من شك في أن اليهود قد عانوا كثيرا جراء ارث اللاسامية الخسيس، وان خلق “اسرائيل” كان رداً ملائماً على سجل طويل من الجرائم، وكما قلنا، يوفر هذا التاريخ قضية أخلاقية قوية لدعم وجود “اسرائيل”، ولكن خلق “اسرائيل” تضمن جرائم إضافية ارتكبت ضد طرف ثالث بريء في أغلب الأحيان، وهو الفلسطينيون.
وتاريخ هذه الأحداث مفهوم تماما، فعندما بدأت الصهيونية السياسية جديا في أواخر القرن التاسع عشر، كان هنالك نحو 15 ألف يهودي فقط في فلسطين. وفي سنة ،1893 على سبيل المثال، كان العرب يشكلون نحو 95% من السكان، وعلى الرغم من أنهم كانوا تحت السيطرة العثمانية، إلا أنهم كانوا يملكون هذه المنطقة بصورة متصلة على مدى 1300 سنة، وحتى عند تأسيس “اسرائيل”، لم يكن اليهود سوى نحو 35% من سكان فلسطين، ولم يكونوا يملكون إلا 7% من الأراضي.
ولم تكن القيادة الصهيونية السائدة معنية بإقامة دولة ثنائية القومية أو قبول تقسيم دائم لفلسطين. وكانت القيادة الصهيونية راغبة في بعض الأحيان بقبول التقسيم كخطوة أولى، ولكن هذه كانت مناورة تكتيكية، ولم تكن هدفها الحقيقي، وقد عبر عن ذلك ديفيد بن جوريون في أواخر ثلاثينات القرن الماضي، حين قال: “بعد تكوين جيش ضخم في أعقاب تأسيس الدولة، سوف نلغي التقسيم ونمتد إلى فلسطين كلها”.
ولتحقيق هذا الهدف، اضطر الصهاينة إلى طرد أعداد ضخمة من العرب من المنطقة التي ستصبح “اسرائيل” في نهاية المطاف. وببساطة لم يكن ثمة سبيل آخر لتحقيق غرضهم، وكان بن جوريون يرى المشكلة بوضوح عندما كتب سنة 1941: “إن من المستحيل تخيل تفريغ عام (للسكان العرب) من دون إجبار، وإجبار وحشي”. أو كما عبّر عن ذلك المؤرخ “الاسرائيلي” بيني موريس: “إن فكرة الترانسفير (الترحيل) قديمة قدم الصهيونية الحديثة، وقد رافقت تطورها وتطبيقها العملي خلال القرن الماضي”.
وقد حانت هذه الفرصة سنة 1947 - ،1948 عندما دفعت القوات اليهودية، ما يبلغ 700 ألف فلسطيني نحو المنفى، وكان المسؤولون “الاسرائيليون” يدّعون منذ فترة طويلة أن العرب قد هربوا لأن زعماءهم طلبوا منهم ذلك، ولكن البحث المتأني (الذي أجرى معظمه المؤرخون “الاسرائيليون”) قضى على هذه الأسطورة. وفي حقيقة الأمر، فإن معظم الزعماء العرب حثوا السكان الفلسطينيين على البقاء في وطنهم، ولكن الخوف من الموت العنيف على أيدي القوات الصهيونية قاد معظمهم إلى الفرار، وبعد الحرب، حظرت “اسرائيل” عودة المنفيين الفلسطينيين.
وكون خلق “اسرائيل” قد استتبع جريمة أخلاقية ضد الشعب الفلسطيني كان مفهوما تماما من قبل قادة “اسرائيل” حيث قال بن جوريون لناحوم جولدمان، رئيس المؤتمر اليهودي العالمي: “لو كنت زعيما عربيا لما كنت أتوصل إلى اتفاق مع “اسرائيل” أبدا، وذلك طبيعي: فقد أخذنا بلدهم..
ونحن ننتمي إلى “اسرائيل”، ولكن قبل ألفي سنة، وماذا يعني ذلك لهم؟ لقد كانت هنالك لاسامية، ونازيون، وهتلر، وأوشفتز، ولكن، هل كانت تلك غلطتهم؟ أنهم لا يرون إلا شيئاً واحداً، هو أننا جئنا إلى هنا وسرقنا بلدهم، فلماذا ينبغي عليهم أن يقبلوا ذلك؟”.
ومنذئذ، سعى الزعماء “الاسرائيليون” بصورة متكررة إلى حرمان الفلسطينيين من طموحاتهم الوطنية. وقد قالت رئيسة وزراء “اسرائيل” السابقة جولدا مائير قولتها الشهيرة: “إنه لا يوجد شيء اسمه الفلسطينيون”، وحتى رئيس الوزراء اسحق رابين، الذي وقع اتفاقات أوسلو سنة، 1993، عارض رغم ذلك إقامة دولة فلسطينية مكتملة، وقد أجبر الضغط الناجم عن العنف المتطرف وتزايد عدد السكان الفلسطينيين الزعماء “الاسرائيليين” المتعاقبين على فك الارتباط مع بعض المناطق المحتلة واستكشاف تسوية محلية، ولكن أي حكومة “اسرائيلية” لم تكن راغبة في أن تقدم للفلسطينيين دولة قابلة للحياة خاصة بهم. وحتى عرض رئيس الوزراء إيهود باراك الذي يُزْعم أنه سخي في كامب ديفيد في يوليو/ تموز سنة 2000 لم يكن ليمنح الفلسطينيين سوى مجموعة من “البانتوستانات” الممزقة والمجردة من السلاح، خاضعة للسيطرة الفعلية “الاسرائيلية”.
وتوفر جرائم أوروبا ضد اليهود مبرراً أخلاقياً واضحاً لحق وجود “اسرائيل”، ولكن بقاء “اسرائيل” ليس موضع شك - حتى ولو أطلق بعض المتطرفين الإسلاميين تصريحات مثيرة للغضب وغير واقعية تنادي ب “مسحها عن الخريطة”، والتاريخ المأساوي للشعب اليهودي، لا يجبر الولايات المتحدة على مساعدة “اسرائيل” بصرف النظر عما تفعل اليوم.
"الاسرائيليون الفاضلون" مقابل "العرب الأشرار"
الحجة الأخلاقية الأخيرة تصور “اسرائيل” على أنها دولة ظلت تنشد السلام في كل مرحلة، وأنها أبدت قدرا كبيرا من ضبط النفس، حتى حين تُستفز، ويقال إن العرب في المقابل، ظلوا يتصرفون بقدر عظيم من الخبث والشر. وهذه الحكاية - التي يكررها من دون انقطاع زعماء “اسرائيل” ومن يختلقون لها الأعذار من الأمريكيين مثل آلان ديرشوفيتز- أسطورة أخرى.
ومن ناحية السلوك الفعلي، لا يختلف أداء “اسرائيل” على الصعيد الأخلاقي عن أفعال خصومها.
ويُبين البحث الصادر حتى عن الجهات “الاسرائيلية” أن الصهاينة الأوائل كانوا بعيدين عن السخاء، وقد قاوم السكان العرب فعلا تعديات الصهاينة، الأمر الذي يصعب استغرابه لأن الصهاينة كانوا يحاولون خلق دولتهم الخاصة بهم على الأراضي العربية. وكان الصهاينة يردون بعنف. ولم يكن أي من الطرفين متفوقاً أخلاقياً خلال هذه المرحلة، كما يكشف هذا البحث ذاته أن خلق “اسرائيل” سنة 1947 - 1948 انطوى على أعمال تطهير عرقي ضمنية، من بينها الإعدامات، والمذابح، وعمليات الاغتصاب من قبل اليهود.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق